الفصل السادس: اتجاهات وتيارات في الإيمان
أصحاب الإيمان من جماعة الوجوديين لا يسيرون في إيمانهم باتجاه واحد، ولا يجرون في تيار واحد، لأن طبيعة الوجودية تثور على السير في خط واحد مقرر. فأنها، كفلسفة، تترك لكل امرئ حق تقرير السبيل الذي يسلكه في اختياره إيمانه وعقيدته. إذ أن كل إيمان يختاره المرء لمجرد أن هذا الإيمان شائع ذائع بين الناس ليس بالإيمان الصحيح. إنه ليس "وثبة إيمان" نحو الله، بل إنه اختباءً وراء الجماهير من وجه الإله.
وهكذا، وبالرغم من التباين بينهم والخلاف، نجد أن المتدينين من الوجوديين يتفقون فيما بينهم في الاحتجاج الشديد ضد الديانة التافهة أو ضد الاختباء السهل اليسير وراء السلطة في الدين. إنهم يهاجمون جميع أنواع السلام والاستقرار اللذين يرفضان بعناد مجابهة الحقائق المروعة التي كشفت عنها حوادث التاريخ العصري والقلق المخيف الذي يداخل نفوس البشر. كذلك يشددون في الدعوة للكشف عن حقيقة الذات بشجاعة ومثابرة مريرة تتطلبهما مثل هذه المغامرة في الكشف عن حقيقة الذات. إنهم يحاولون أن يتفهموا أثر حضارتنا - بما تنطوي عليه من حروب، ورخاء وتقنية- في نفوس الناس، وماذا تتركه هذه الحضارة في حياة الأشخاص.
إن الوجودية المتدينة تذهلنا بوهجها كما تذهلنا حفلة نارية متألقة. ومهما أوتي المرء من قدرة على الوصف الدقيق فإنه يعجز عن وصف الأثر الرئيسي الذي تتركه في نفوس المشاهدين، أعني سرعة حركتها. وسأقتصر على ذكر بعض الأمثلة مدركاً أني أفعل هذا على حساب إغفال بعض المعالم العظيمة في هذه الحركة، وبعض الظلال الخفية، وسأذكر أمثلة عن البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية.
ولكن قبل أن أقول شيئاً عنها ينبغي لي أن أشير إلى شخصيتين كبيرتين لا تنتميان إلى أي من هذه الفئات الثلاث ولكن كان لهما عظيم الأثر فيها. الأول منها هو نقولا بردييف (1874- 1948) الروسي اللامع والأرثوذكسي المفكر الذي كان له الشرف العظيم في أن يسجن وينفى على يدي روسيا القيصرية والحكومة السوفياتية. كان بردييف يعيد دعوة دوستيفسكي الحميمة للحرية ولتحقيق توق الكنيسة الشرقية القديمة وحلمها في أن يصبح الإنسان يوماً في مصاف الإلوهية. كانت فكرته العظيمة أن كون الذات فريدة وقدرتها على الإبداع تتحديان النزعة لاعتبار الإنسان "مجرد شيء" وفي نقده اللاذع لكلا الشيوعية والرأسمالية في استغلالهما الناس كان يدعو إلى "اشتراكية إنسانية" أو اشتراكية تبقي على الذات. غير أن آراء بردييف لم تكن لتلاءم لا الأرثوذكسية الشرقية ولا أية أرثوذكسية أخرى. ولكنه كان يخاطب مرغماً المسيحيين في كل مكان موجهاً إليهم كلامه من منزله في باريس حيث قضى الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته.
والرجل الثاني الذي ينبغي لي أن أشير إليه هو كارل ياسبرس (Karl Jaspers) من ألمانيا وسويسرا الذي يعد إلى جانب هيديجر، من أهم فلاسفة الوجودية. وبما أن مدخله إلى حقل الفلسفة كان عن طريق الطب الجسدي والنفساني فإنه يبزّ أقرانه من الوجوديين في توكيد قيمة العلم والعقل. ومع هذا فإنه يحسب كير كغارد ونيتشه عبقريين أحدثا تغييراً جذرياً في الفكر المعاصر. لقد بين هذان الرجلان بوضوح أنه لا يمكن توافر التفكير الصحيح بدون فهم الذات أولاً. يقول ياسبرس - وفي قوله يستعير لفظة "السفينة المحطمة" التي كان يستعملها كير كغارد في وصفه وضع البشرية- إن الفيلسوف الذي هو فيلسوف حقاً لا يستطيع أن يجد سبيله إلى الإيمان وإلى الحقيقة المنشودة ما لم يمر في طور من القلق، وما لم يعان ألم اليأس والقنوط. أما فيما يتعلق بأمر الدين الموحى به من السماء وبين الإلحاد فإن ياسبرس يتخذ مسلكاً وسطاً بين كير كغارد ونيتشه. و"الوثبة" إلى الإيمان عنده هي وثبة إلى التفكير "الماورائي" الذي يبلغ بصاحبه الخشوع أمام ما وراء الكون إلا أن هذا التفكير يأتي به إلى التشكيك في المسيحية. وبالرغم من أن ياسبرس مدين بكثير من آرائه للكتاب المقدس فإنه يعتبر بعض العقائد الواردة فيه، والتي يجدها المسيحي محررة، يعتبرها حاصرة وضيقة.
- عدد الزيارات: 2830