اليهودية و "أنا- أنت"
إن تيارات فكرية عديدة قد وجدت سبيلها إلى اليهودية العصرية الكثيرة التباين. فإن اليهود الأرثوذكس (أي المحافظين) الذين يضعون توكيداً خاصاً على الشريعة والطقوس التعبدية، كثيراً ما يجدون الفلسفة الوجودية أشبه بحركة همها تحطيم المقدسات اليهودية التي تناولها الإصلاح الديني بالتعديل فإنها كثيراً ما تتهم الوجودية بأنها غير عقلانية وعلى كثير من التشاؤم. ولكن بالرغم من هذا فإن هنالك الآن فلسفة وجودية يهودية قوية تثير الفكر وتستأثر بالولاء العميق ليس في مجامع اليهود ومعابدهم وحسب بل في الكنائس المسيحية وفي المدارس خارج المجتمع اليهودي، ومن جملة الرواد الذين يتكلمون باسم الوجودية فرانز روزنزفيك (Franz Rozenweig ) (توفي سنة 1929). ومارين بوبر (Martin Buber) ومفكرون آخرون من الجيل الذي تلا جيلهما مثل ابراهام هشل (Abraham Heschel)، وول هربرغ (Will Herberg).
أما بوبر فهو المفكر الجبار الذي ذاع صيته في سائر أقطار العالم حيث يعنى الناس بالتفكير الديني. إن بوبر يهودي عميق الجذور في يهوديته، غير أنه شديد النقد في مهاجمة اليهودية التقليدية المنظمة، وهو كاتب فرض ذاته على جماهير من الناس بفضل شخصيته الجذابة وبفضل كتاباته. ولأفكاره جذور عميقة في الكتاب المقدس وفي الحركة التصوفية الموسومة "بالحسيدية" تلك الثورة الدينية الحميمة التي نشأت في أوروبا الشرقية في القرن الثامن عشر. غير أنه أثارها حرباً ضروساً ضد كير كغارد ودوستيفسكي ونيتشه، كما أنه هاجم الوجوديين فيما بعد.
يقول بوبر - وفي قوله هذا يتفق مع كير كغارد "إن الإنسان يجد أن الحقيقة حقيقة فقط عندما يستطيع أن يطيق تحملها". والمفكر الوجودي العقيدة "يجعل من حياته حياة تتوقف على تفكيره وتكون رهناً على تفكيره". فإن بوبر مثل كير كغارد يضع أهمية كبيرة على قضية اتخاذ موقف أو قرار،لأنه،كما يقول" إذا كان هنالك شيطان فإنه شيطان ليس لأنه اتخذ موقفاً أو قراراً معادياً مخالفاً لمشيئة الله، بل لأنه منذ البدء لم يتخذ موقفاً ولا قراراً. وينتقل بوبر من هنا لينتقد فلسفة كير كغارد الداعية إلى الفردية المنعزلة الكئيبة انتقاداً جذرياً لاذعاً. إن هذا الرجل الدنمركي(كير كغارد) على حق في دعوته لخلاص الذات الفردية من وطأة الجماهير الدهماء التي لا ذات لها. ولكنه كان على خطأ غي عزل الذات الفردية عن المجموع. فانه قد أخطأ في رفض الزواج كمؤسسة اجتماعية، واخطأ في نظرته القاسية الجافية إلى العالم. ووجه الخطأ في هذه الفلسفة هو أن الذات الإنسانية لا تصبح ذاتاً إنسانية ألا بعلاقتها وصلتها بالجموع البشرية.
لقد أصبحت عبارة بوبر"أنا- أنت" التي بها يشير إلى أهمية العلاقة بين الذات والأخرى، عبارة شائعة إلى حد الابتذال. ولكن بعض الأفكار التي تنطوي على أبعاد من الغنى والعمق لا يمكن للعبارات الطنانة المبتذلة أن تقضي عليها بيسر، وهذه العبارة "أنا - أنت" هي من جملة هذه العبارات التي تصمد في وجه الابتذال. يقول بوبر: "في البدء كان العلاقة الشخصية"، و "كل عيش أو حياة حقيقية إنما هو عيش وحياة بالعلاقة الشخصية" . وعبارة "أنا - أنت" وما تنطوي عليه من صلة وترابط، من أشد العبارات الإنسانية أصالة وعمقاً. فهي ليست عبارة تتألف من كلمتين الواحدة منها متصلة بالأخرى، بل أنها عبارة تسبق في مغزاها الكلمتين فإن الشخصين،أنا وأنت، يصدران عن العلاقة بينهم، ولا يمكن للشخصين أن يكونا شخصين بدون علاقة وترابط.
ولكن هناك عبارة أخرى جوهرية أصيلة وهي عبارة "أنا - وشيء آخر" عبارة لا مناص منها ولا مجال لإغفال أمرها. "لأن الإنسان لا يستطيع العيش بدون هذا الشيء الآخر، كذلك من يعيش مع هذا الشيء الآخر، ويكتفي بالعيش معه، ليس إنساناً بمعنى الإنسان". ومصدر هذا البلاء هو أن ضغط الحياة وكابوسها، لاسيما في المجتمع الجماهيري، يدفعان بالمرء لاعتبار الفرد "شيئاً آخر" لا لاعتباره أنه "أنت" أنت الذات. واعتبارنا الإنسان الآخر أنه شيء أمر يقضي عليه، ويقضي على ذواتنا. لأن "الأنا" في العبارة "أنا - أنت" شخص قادر على العلاقات الشخصية والمحبة وعلى بلوغ الذات. أما "الأنا" في العبارة" أنا والشيء الآخر" فلا تنطوي على علاقات إنسانية بل أنها دون مستوى الإنسانية.
وهناك "أنت" لا يمكن أن يصبح "الشيء". "أنت" السرمدي هو الله. والله هو "أنت" الحقيقي في كل حياة إنسانية. قد تحاول الحياة، لا بل قد يحاول علم اللاهوت، أن يغير الله إلى "شيء" أو يحاول أن يتكلم عنه وأن ينتفع به. وإذا كان هذا حقاً فلا شك أننا نخدع أنفسنا.
إن النشوة الرائعة التي يشعر بها بوبر نحو الله لها مسحة صوفية عميقة، ولكنها نشوة لا تدفع بالذات لتصبح واحداً مع الله كما هي في الصوفية. لأن "الله فوقنا" فهو لا يستوعب ذواتنا، بل يجعل منا ذواتاً.
إن سحر هذا الرجل، بوبر، قد جذب إليه جميع الناس من مختلف الملل والنحل، الذين تتوق أنفسهم للخلاص، هذا الرجل الذي هو شاعر، وفي الوقت ذاته ناثر يعتمد العقل في تحليله. إن الناس الذين عافت أنفسهم هذا المرض القاسي في الحياة، مرض قتل الذات وطمس الشخصية، وفي الوقت ذاته لا يرضون عن الفردية المتطرفة التي يقول بها بعض الوجوديين، أقول أن مثل هؤلاء الناس يجدون في بوبر الرجل الذي يبقي على الذات كذات تتكامل في الاجتماع والترابط. وبالرغم من أنه يهودي، ويهودي محافظ متمسك بيهوديته، فإنه استأثر بتقدير المفكرين من رجالات البروتستانتية أمثال أميل برونر (Emil Brunner) وكارل هيم (Karl Heim ) ورينهولت نيبور. وقد وصفه يهودي آخر، ول هربرغ، بأنه "ثائر أقرب إلى روح البروتستانتية من كثير من رجالات اللاهوت البروتستانت."
- عدد الزيارات: 4459