Skip to main content

الفنون الكلامية

لدوستيفسكي أثر في معظم معالم الوجودية الحديثة. فإنك إذا تصفحت أدبها ترى في ناحية ما أثرا بارزاً لهذا الكاتب الجبار. لأنه منذ أن ألف رواياته المثيرة أصبحت القصة الشكل الرئيسي الذي به تعبر الوجودية عن نفسها.

ومنذ أمد قصير كتب أحد النقاد يقول: "أن الموضوع الأدبي البارز في قرننا هذا يدور حول الفراغ والعزلة الكئيبة في الحياة البشرية التي تعيش في مجتمع أخذت تزايله القيم الشعورية والخلقية شيئاً فشيئاً. وهذا دليل على أن معظم الكتّاب أخذوا يشتركون في الثورة الوجودية ضد تجريد الإنسان من إنسانيته، وفي الكشف القلق الخفي والقنوط المخيم على الناس. فهم كالفلاسفة يقدمون على الوثب إما إلى الإيمان أو إلى الفراغ.

عادة هؤلاء الكتاب، مثل دوستيفسكي، لا يدعون أنهم وجوديون، حتى وأن كانوا قد سمعوا بهذه الكلمة. وهذا في حد ذاته حقيقة حاسمة، وهي أن الوجودي لا يبدأ بالتفكير بعقيدته ويصوغها في قالب معين بل الأمر على نقيض هذا. فإنه يبدأ أولاً بالأسلوب الذي به يعبر عن عقيدته، أي أن التعبير يسبق العقيدة الرسمية المحددة. لأنه بواسطة الحركة والنشاط مثل الكتابة، والصراع، والزواج والصلاة- يكتشف المرء ذاته ويكتشف ذات الآخرين. وهذا الذي يكتشفه الوجودي من الذات يسجل أدباً. وبعض هذا الأدب، بطبيعته يقع ضمن إطار الوجودية. وكثيراً ما يكتشف القراء الذين يقرؤون كتب الأدب أن هذه الحبكة، أو هذا الموضوع من حبكات الأدب الوجودي، أو من المواضيع التي تتناولها الوجودية. ومن جملة الأدباء الفنانين الذين ينتمون إلى هذه الحركة كفكا (Kafka) وجيد (Gide) ومالرو (Malraux) وبوفوار (de Beauvoir) وكامي (Camus) وسارتر (Sartre) وبكت (Becket) ومن الروائيين الأميركيين ربما يكون وليم فولكنر (William Faulkner) هو أقرب الكتاب إلى أن يكون وجودياً بالرغم من أنه إذا قيل له "أنت وجودي" لكان يرد على هذه التهمة بشخرة وجودية.

إن أشهر روائي وجودي يتعمد أن يكون وجودياً هو سارتر. فإنه، مثل كير كغارد، يحاول أن يكشف عن النواحي غير المعقولة في الحياة، وأن يفضح المراء والمداجاة التي تلابس حياة الأفراد. غير أن إسلوبه يختلف. فإنه يبالغ في التركيز على ما هو قذر خسيس، وعلى ما هو بذي رذيل، وعلى كل شذوذ جنسي. على أن معالجته الأمور الجنسية تختلف عن معالجتها على أيدي كتاب يستهدفون دغدغة الشهوات البدائية في كتب رخيصة تباع عند منعطفات الشوارع (مع العلم أن أحد كتبه انحط فبيع عند منعطفات الشوارع.) بل أن سارتر يحاول أن يكشف عن القنوط واليأس في حياة الناس، وعن الاشمئزاز الذي يشعر به من كانت حياته فارغة لا معنى لها.

أما ألبرت كامي الفائز بجائزة نوبل للآداب فرجل يختلف عن هؤلاء كل الاختلاف. إنه يكاد يكون رجل لاهوت لا يؤمن بالله، وهو رجل متعطش للإلوهية إلى درجة أنه يبغض الله لأن الله غير موجود لا يعلن ذاته للبشر. والمواضيع التي يعالجها مواضيع مسيحية مألوفة: كالرجل الذي يؤثر أن يشترك في الحياة التي يحياها الأشقياء الأبرياء على أن يشرك الخطاة من الغزاة والقاهرين في حياتهم، ومواضيع أخرى كالعذاب الذي يصيب الرجل من جراء تأنيب الضمير، والتوق الأليم إلى الفداء. إنه يصور لنا شخصيات نزلت بها فواجع، ولكنها شخصيات نلمح فيها ملامح البطولة النبيلة. فإننا نكاد نسمعه يقول: "يا أبتاه في يديك استودع روحي."

والشعر يبز القصة النثرية في قدرته على التعبير غير المباشر. فإن الشعر الحقيقي الصافي- وهنا استثني النثر الذي قد يكون له وزن وإيقاع- ينقل إلى الذهن صوراً أكثر مما في ثنايا الكلمات من صور ومعان - والشعر يقتضي تركيزاً خاصاً من قبل الرجل الذي يصغي إلى الشاعر والذي ينبغي له أن يترك خياله يسرح في عالم الشاعر ليكتشف في هذا العالم ما لا يستطيع الشاعر أن يعبر عنه علانية وبصراحة. فمن هذا القبيل إذن، يكون الشعر بطبيعته وجودياً. فإن الخيال الحساس الرقيق الذي يتوافر للشاعر كثيراً ما يسبق الفيلسوف إلى رؤى وجودية. مثال على هذا روبرت فروست (Robert Frost) ذو الروح الراسخة التي تتميز بها منطقة نيوانكلند تلك الروح التي هي بطبيعتها بعيدة البعد كله عن الجو الوجودي المحموم، فإنه أديب عبر عن التوق الوجودي وعن الحنين الوجودي تعبيراً عميقاً صادقاً.

ولكن هنالك شعراء آخرون يقعون حتماً في إطار التقليد الوجودي. منهم ألمانيان عظيمان: هولدرلن (Holderlin) (177.- 1843) وريلكه (Rilke) (1875- 1926) كادا أن يصبحا القديسين شفيعي الفلسفة الوجودية.

ومن الشعراء الذين لغتهم الإنكليزية هنالك جملة صالحة منهم يعد أصحابها من الوجوديين. ويرجح أن أشهرهم ت.س. اليوت (T.S.Eliot) الأميركي الأصل الذي اتخذ الجنسية الإنكليزية و و.ه. أودن (W.H.Auden) الإنكليزي الأصل الذي اتخذ الجنسية الأميركية. وكلاهما انتقلا من التشكيك إلى الإيمان المسيحي. أما اليوت الذي كان انكليزياً في عاداته وتصرفاته، وكاثوليكياً انكليزياً في عقيدته، فقد كان في نظر عديدين من الثوريين الوجوديين رجلاً تنفر منه النفس نفوراً شديداً. ولكنه رجل يسحرهم عندما يغور معهم إلى أغوار الفراغ في الحياة الإنسانية وعندما يمزق الستائر الخادعة التي تخفي وراءها عيوب الحضارة العصرية ونقائصها. أما أودن الذي كان حسن الاطلاع على أساليب العالميين والكنسيين ولغتهم وعلى الأمور التي تروق لهم فإنه كثيراً ما كان يعبر عن فلسفته الوجودية بشعر رائع السبك. والشاعران يحسنان الجمع بين سرعة النكتة والرصانة العميقة. فليس عجباً، ولا عن طريق الصدفة نجد اليوت يكتب مقدمة لكتاب باسكال الموسوم بـ "أفكار" وأودن ينشر كتاباً يجمع فيه مقتطفات من كتابات كير كغارد.

  • عدد الزيارات: 2649