Skip to main content

وثبة الإيمان

إن الدواء الوحيد لمعالجة القنوط المتطرف في النفس هو الثقة المتطرفة، ولكننا لا نؤثر أن نذهب في قنوطنا ولا في ثقتنا إلى الطرف القصيّ، بل إننا نؤثر إن نذهب في قنوطنا ولا في ثقتنا إلى الطرف القصيّ، بل إننا نؤثر أن نسير الهويناء نحو الإيمان، وبدون أن نتخلى كلياً عن رغباتنا القديمة التي تدفع بنا إلى الحصول على الطمأنينة والاستقرار. ونحن نهدف إلى سد الهوة بحيث يسهل على المرء أن يجتازها إلى العبر المقابل بدون أن يعلم أنه قد اجتازها. يقول كير كغارد: نحن نشبه ممثلاً في مسرحية هزلية دنمركية تدرج "شيئاً فشيئاً إلى أن افترض أنه إذا كاد يجتاز امتحاناته المدرسية بنجاح، فكأنه قد اجتازها بنجاح فعلاً ". أو أننا نشبه رجلاً لا يجيد السباحة فيحاول أن يلامس القاع بإصبع من رجله عوضاً عن أن يثق بالماء فيحاول أن يطفو على وجه الماء. والواقع أن الإنسان لا يكون سباحاً إلا إذا كان يجرؤ على الابتعاد عن الماء الضحل، ويستعيض عن لمس القاع برجليه بترك نفسه طافياً على الماء. إن المؤمن الحقيقي يشبه رجلاً يطفو فوق "سبعين ألف قامة من الماء" معتمداً على البحر في تعويمه.

أنه من الضروري أن نلاحظ أن كير كغارد لا يعني بوصف الحالة النفسية الآنية التي يعانيها من ينتقل فجأة من حالة إلى حالة أخرى.إذ أن المرء الذي ينتقل من حالة نفسية إلى أخرى ينتقل ببطء وبجهد زمناً، تماماً كما يفعل المبتدئ بالسباحة. إلا أن هنالك فرق فاصل بين من يثق بالبحر وموجه وبين من يعتمد على لمس الماء برجله. وما يريد كير كغارد أن يقوله هو أن المسيحي لا يمكن أن يكون مسيحياً بدون مغامرة وبدون ثقة بالله - وإن كان بالثقة بعض المجازفة. "لا إيمان بدون مجازفة ومخاطرة".

إذن يتطلب الإيمان منا "وثبة". وهذه الوثبة ليست، كما يقال أحياناً، وثبة يائسة تثبها العواطف مخلفة ورائها العقل مشلولاً. بل هي قرار واعي تتخذه الذات، الذات المتكاملة- العقل والإرادة والشعور. ولكن ليس واحد يصل إلى الإيمان بدون جهد.

إن المشكلة الحقيقية (لا المشكلة التي نتخيلها) ليست مسألة شك مقابل إيمان. ولو أنها كانت كذلك لكان هناك أنصاف طرق عديدة للجمع بينهما، كأن ينتقل المرء من حالة التشكيك إلى حالة الإمكانة ومنها إلى حالة اليقين التام. غير أن الصراع الحقيقي هو صراع اليأس وازدراء المخاطر ضد الإيمان والثقة. هنا لا نجد أنصاف حلول للمشكلة.

وهكذا نجد كير كغارد يقلب كثيراً من الآراء التقليدية عن المسيحية رأساً على عقب. غير أن السؤال الخطير ليس السؤال عن المعتقدات المسيحية وما هي هذه المعتقدات. في الواقع أن مثل هذه السؤال، في كثير من الأحيان، ينم عن جبن في مجانبة السؤال الحقيقي الذي ينبغي للمرء أن يسأله وهو: "كيف أستطيع أن أصبح مسيحياً؟.

ولكي يصبح المرء رجلاً مسيحياً، يقول لنا كير كغارد، عليه أن يحيا حياة وكأن المسيح معاصراً له في الزمن. ومادام السيد المسيح شخصاً - وشخصاً خطير الشأن- عاش ووجد منذ أجيال عديدة، فإني لا أجد صلة أو رابطة تربطني به كالصلة أو الرابط التي تربطني بأبناء قومي الذين أعاصرهم وأعايشهم. ولكن إذا أصبح السيد المسيح معاصراً لي في الزمن فإني أشعر، عندها، أن وصاياه ووعوده موجهة نحو شخصي أنا. فإن المسيحي يشارك المسيح في ألمه وحزنه، وفي شجاعته وجرأته.

ومع هذا فإن المسيح كدّر الإنسانية. وصاياه قاسية عنيفة، حتى أن ألطف ما فاه به يؤذي. "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم". إنه قول لطيف جميل، ولكن من هو هذا الذي يقول مثل هذا القول؟ إنه من أشد الناس تواضعاً، رجل لا مكان له يسند إليه رأسه بينما للثعالب أوجار وللطيور أعشاش. إنه رجل يقودنا إلى الجلجثة. كيف يمكن لمثل هذا الرجل أن يكون إلهاً إنساناً؟ فلا غرابة إذن، إذا كنا لا نجد السبيل إلى الإيمان به بواسطة المنطق وحسن الإدراك. ولا غرابة إذن إذا وجدنا الإيمان وثبة تستدعي الجرأة والإقدام.

وهي، إلى جانب هذا، وثبة لا تقف بل تستمر. لا يستطيع امرؤ أن يقول، وأن يرضى عن قوله "لقد قمت بهذه الوثبة السنة الماضية، أما الآن فأنا أرى نفسي، بعد وثبتي، على الجانب الآخر، وأصبحت الآن رجل إيمان." حتى وأن تغلبت، في أثناء أزمة ما، على مخاوفي، فإن التهديد الذي يعقب سيجدني معرضاً للوهن. وهكذا فإن الإيمان مغامرة دائمة الاستمرار، معرضة لشتى المخاطر. وهكذا فإن الإنسان يعيش في "خوف ورعدة". لأن الخوف والرعدة يعنيان أن الله موجود."

  • عدد الزيارات: 3443