Skip to main content

اكتشاف الذات

ذكرنا آنفاً أن الوجودية تنطلق من السؤال التالي: من أنا؟ وما معنى وجودي كفرد مستقل قائم بذاتي؟ وهو سؤال ينطوي على صعوبة كبيرة لا يستطيع أحد أن يجيب عنه. ولكن عندما يشرع المرء أن يجيب عنه، أو أن يعيد السؤال ذاته، وبكل جدية ورصانة، يجد أن الأمر على غاية من الخطورة.

إن العقبة الكأداء في الإجابة عن هذا السؤال هي تخوفنا من تفهم ذواتنا، ذلك لأننا نعيش في أوهام كاذبة وخيالات خادعة، فإذا ما جئنا نكتشف ذواتنا على حقيقتها بدون أوهام وخيالات وجدنا أنه تنقصنا الشجاعة. إن الشخصية في تحايلها على خداع الذات شيء غامض مبهم يصعب علينا إدراكه.

فإننا إذا حاولنا مجانبة الأوهام والخيالات التي نعيش فيها نكتشف فوراً أن في قرارة الذات قلقاً عميقاً. (وأحرى بنا أن نقول، خوفاً شديداً، لأن كلمة قلق في لغتنا العادية أصبحت مبتذلة نطلقها على توافه الأمور.) وبعض الناس ينكرون هذه الحقيقة، وهم الجبناء الذين يفلحون في التستر والإخفاء. أما أولئك الذين ينظرون في قرارة ذاتهم بصدق وأمانة فإنهم يكتشفون هذا القلق العميق. ويكاد كل امرئ، في ساعة من ساعات الحياة الهادئة عندما ينظر في ذاته، أن يكتشف هذه الحقيقة لذاته.

ما سبب هذا القلق؟ وأيسر جواب وأبسطه هو أن الحياة مكتنفة بشتى المخاطر. ولأن الإنسان بطبيعته يستطيع أن يرى أبعاداً وراء الإطار المحدود الذي يعيش فيه فإنه يتوق إلى الحصول على تلك الطمأنينة وعلى ذلك الاستقرار النفسي اللذين لا يمكن الحصول عليهما إطلاقاً. إنما يحصل على طمأنينة وعلى ضمانة مؤقتة في العائلة أو في العمل الذي يتعاطاه أو في الشهرة التي يتميع بها. وما لم يكن خبيراً ممتازاً في فن خداع الذات وإبهامها فإنه يدرك فوراً أنها أموراً مؤقتة، كما أنه يدرك بأن وجوده مؤقت لابد أن يزول. ولا شيء في هذا العلم يمكن أن يوفر له الطمأنينة التي يتوق إلى الحصول عليها.

وفضلاً عن هذا، فإن للإنسان متسعاً رحباً لاختبار الحياة التي يرغب في أن يحياها. ولكن يجب ألا ننسى أن الوراثة والبيئة أمران لهما أثرهما في تحديد هذه الحياة التي يختارها.والقرارات التي نتخذها هي التي تقرر مصير ذواتنا. هذه الذات الخاصة بكل فرد منا تستطيع أن تكون، وأن تعمل ما لا تستطيع ذات أخرى أن تكونه وأن تعمله. هذه هي مسؤولية كل ذات، وهذه المسؤولية هي مصدر القلق والخوف.

وهنا يتساءل كثيرون من الناس: وهل كل هذا أمر ضروري محتم؟ وما نفع الكلام عن مثل هذا الأمر؟ أن يكون هنالك الشيء الكثير من القلق النفسي فأمر طبيعي، ولكن أليس الكلام عن القلق والخوف مما يفقد الناس ثقتهم وتجلدهم؟ أليس من الأفضل تناسي وجود القلق، والعيش بشيء من الرضى والسعادة بدون أن يداخلنا هم وقلق؟

إن جواب الرجل الوجودي العقيدة عن هذه الأسئلة، على نقيض ما يشاع عنهم من إشاعات، ليس رغبته الدنيئة في أن يستحيل كل امرئ إلى رجل شكس نكد، فإن الوجودي يستطيع أن يتمتع بلذائذ الحفلات وأن يسرّ بالأصدقاء والأصحاب والألعاب الرياضية (كان كير كغارد من أشد الناس ولعاً بالمسرح.) ولكن الوجودي يقول: عندما تتمتع بلذائذ الحياة عليك أن تدرك معنى ما أنت فاعله.

نعم، هنالك الكثير من الناس الذين يستطيعون أن يحيوا حياة عادية تقليدية، وأن يتمتعوا بمثل هذه الحياة إلى حد معلوم. فإنه، ما دام الواحد منهم يشعر بالصحة الجيدة، وينعم بشيء من المال، وما دام الجار جاراً كريماً فاضلاً، وما دام الأولاد في مأمن من المتاعب وما دامت الأمة تنعم بالسلام، فإن مثل هذا الرجل يشعر بشيء من الطمأنينة والاستقرار. ولكن هذه الطمأنينة هي وهم وخيال، وهي طمأنينة معرضة لشتى المخاطر. لأنه إذا طرأ تغير مفاجئ (مثل مرض السرطان أو نشوب حرب، أو حظ عاثر) فإن الدنيا تزلزل زلزالها في أية لحظة من اللحظات، ذلك لأن الحياة بطبيعتها ليست حياة مأمونة الجانب. وفضلاً عن هذا فإن هذه الحياة العادية المتوسطة المستوى التي يرضى عنها بعض الناس تصلح أن تكون حياة لمن هم دون الإنسان في مستواه ولكن لا يصح أن تقابل بالحياة المليئة الهانئة المقيضة لنا. إنها حياة تزيل عن كاهل المرء عبء القلق البغيض الناجم عن تحملنا مسؤولية خلق الذات.

وإذا كان كير كغارد على صواب فيما يقوله فإن كنائسنا تضر بنا من حيث أنها تحاول أن تعبث فينا "راحة الضمير" و "التفكير الإيجابي ". كنائسنا تشجعنا - على حد قول كير كغارد- على الاسترسال في الوهم وعلى مجانبة الواقع عوضاً عن أن تدفع بنا إلى الكشف عن حقيقة ذواتنا وبكل صدق وإخلاص. وإنه من الأفضل للكنائس أن تمزق الغشاء الذي على أعيننا. فتختفي عندها الخيالات، وتزول الأوهام، فنرى ذواتنا على حقيقتها: "المرض حتى الموت." عندها فقط يمكن أن نشفى من أمراضنا وعندها فقط يمكن اللجوء إلى المعالجة.

يحاول كير كغارد أن يؤثر فينا، متجاوزاً طبيعة ضعفنا في خداع ذواتنا، عن طريق وصفه المراحل الثلاث التي تمر فيها الحياة. في المرحلة الجمالية، المرحلة التي نحن فيها إلى العيش الجميل الهانئ، يشعر المرء أن للحياة معنى بقدر ما يتمتع بلذائذها طليقاً لا يقيده قيد. يتذوق من الحياة أطيابها قافزاً من متعة إلى متعة بسرعة كما يقفز حجر نرمي به ليلامس سطح الماء. ولكن كما أن الحجر لا يظل يقفز على وجه الماء بل أنه سيغرف كذلك على المرحلة الجمالية في الحياة أن تأتي يوماً إلى النهاية من القنوط واليأس. فإن المتعة دون تحمل المسؤولية لا يمكن لها أن تطيل من عمر هذه المرحلة، المرحلة الجمالية.

إذن، حالة القنوط واليأس تدفع بصاحبها إلى أن يتخذ قراراً ما، وعندما يوطد الإنسان العزم على أن يختار طريقاً أو أسلوباً بالعيش، يصبح عند ذاك شخصاً على حقيقته الكاملة. والكفاح في الحياة وتحمل المسؤولية يصبحان من العلامات الفارقة لتكامل الذات. ولكن هذه المرحلة، ولنسميها المرحلة الأخلاقية، تجلب معها اختبارات من تأنيب الضمير والندم وانسحاق القلب. وما النفع من قول الإنسان- بعد أن يكون قد ألقى نظرة عابرة على تقرير "كنزي" المتعلق بالحياة الجنسية في أمريكا- إن تصرف الإنسان حسن إذا كان تصرفاً لا يخرج عن المألوف، لأن كل قرار أخلاقي يتخذه المرء يعني الالتزام والتعهد، والناس في أمر الالتزام والتعهد على كثير من التردد والتراخي. ومرة أخرى تسفر الحالة عن قنوط ويأس.

إذن يتحتم على الذات الإنسانية تحقيق الأماني وإنعاش الآمال التي عجزت عن أن تحققها أو أن تنعشها - وإلا اضطرت هذه الذات أن تدخل في المرحلة الثالثة، مرحلة التدين والتقي. في هذه المرحلة يدرك الإنسان أنه شخص مسؤول أمام خالقه، ويدرك معنى الخطيئة والألم، لاسيما عندما تنكشف الحجب والستائر الشفافة التي تحجب وراءها الحقائق. إذ أن الخطيئة ليست مجرد اقتراف عمل شنيع، بل أنها الخوف وانعدام الثقة اللذان يبعداننا عن الله. ولكن إدراك المرء ذاته على أنه خاطئ يتألم ويشقى أمر فيه كسب ونفع. إذ أن في الألم والشقاء روعة لا يشعر فيها من راح يسعى واهماً إلى مجانبة الألم والشقاء في حياته. والألم والشقاء في الحياة يفتحان للمرء نافذة يطل منها على محبة الله التي تسبغ عليه فرحاً وسلاماً عوضاً عن اليأس والقنوط. وإذا ما استطاع الإنسان أن ينزل هاتين المرحلتين، الجمالية والأخلاقية، عن عرشيهما- لا أن يقضي عليهما قضاء تاماً- أي أن يخفف قليلاً من قيمتهما، وجد أن المرحلتين تحتلان مركزيهما اللائقتين في الحياة المتكاملة. ولكن توافر هذه النتيجة يتوقف على شيء سندعوه "وثبة الإيمان".

  • عدد الزيارات: 9338