الإصحاح الثاني والثلاثون: خواء وخيبة الخصومة - لا بدّ أن يتكلم
(ع14-22) لا بدّ أن يتكلم.
"فإنه لم يوجه إليّ كلامه" ولذلك فإني في مركز يؤهلني للتحدث معه بهدوء وفي غير هياج، لو أنه هاجمني لشيء قلته فقد يبدو كلامي تشفّياً أو انتقاماً، أما وإنه لا يوجد ضدي أي كلام، فأنا لا أحمل له أية ضغينة ولذلك أتكلم هنا لوجه الله وبالنيابة عن الله. ولو أني شاب صغير "ولا أرد أنا عليه بكلامكم" فإنهم كانوا مجردين من القوة.
"تحيّروا لم يجيبوا بعد انتزع عنهم الكلام". ها هو الاختبار والتقليد والناموس يكسحون بعيداً ليتركوا مكاناً "لنسمة القدير" ولحكم الله وخدمته المباشرة النافذة المفعول.
إن خدمة أليهو تتجه بقوة غريبة وكمال عجيب إلى النفس مباشرة وهي تتناقض تماماً مع خدمة الأصحاب الثلاثة الناقصة وذات الوجه الواحد. والحق يقال إننا نتنفّس الصعداء إذ نصل إلى نهاية مناقشة طويلة يظهر أنها كانت مزمعة على أن لا يكون لها نهاية. مناقشة بين بر الذات من جانب والاختبار والتقليد والقضاء من جانب آخر. مناقشة قد خلت من كل فائدة فيما يختص بأيوب نفسه بينما هي قد تركتهم جميعاً وهم حيث كانوا في البداية لم يتقدموا شبراً واحداً ومع كل فهذه المناقشة لا تخلو من فائدة لنا نحن. فهي تعلمنا بطريقة واضحة جلية أنه عندما يدخل طرفان في مناقشة فليس من الممكن البتة أن يصلا إلى تفاهم ما لم يوجد قليل من التواضع والخضوع في طرف منهما وهذا درس ثمين جداً نحتاج كلنا أن ننتبه إليه انتباهاً خاصاً إذ يوجد كثير من التصلّف والأفكار المتشامخة ليس فقط في العالم ولكن أيضاً في الكنيسة كثير من المشغولية بالذات وكثيراً من "أنا" وهذه الروح تظهر أيضاً حتى حيث لا نحسب لها وجوداً في الغالب حيث تكون مندسّة بصورة خفية أو بعبارة أخرى في الأمور المتعلقة بخدمة المسيح المقدسة. وبكل تأكيد فإن محبة الذات تكون أكره ما يكون عندما تظهر نفسها في طريق خدمة ذاك القدوس المبارك الذي لم يجعل لنفسه أي صيت أو جاه والذي كانت حياته كلها إخلاء النفس من البداية للنهاية ولم يقصد مجده الذاتي في أي عمل من أعماله ولم يجري قط وراء مصلحته الذاتية أو إرضاء مطاليبه الشخصية.
ولكن ألا نرى كم من الأنانية ومظاهر الذات تتجلى في مشهد المسيحية الاسمية والخدمة المسيحية؟ إننا بكل أسف لا يمكننا أن ننكر هذا الأمر ومع كل ذلك تأخذنا الدهشة عندما يقع نظرنا على المناقشة الغريبة التي دارت بين أيوب وأصحابه. فعجب كل العجب عندما نرى ما يقرب من مائة مرة يشير فيها أيوب إلى نفسه في الإصحاحات (29-31) وحدها أو بالاختصار عندما نرى كلمة "أنا" تملأ المشهد من أوله لآخره.
ولكن دعنا ننظر إلى أنفسنا. دعنا نحكم عل قلوبنا ونفحص ما في أعماقها. دعنا نمتحن طرقنا في نور الحضرة الإلهية، ليت الرب يجعلنا متواضعين تواضعاً حقيقياً وهكذا نكن مخلصين ومكّرسين حياتنا له.
وليتعلم الجميع درساً نافعاً وقيّماً من أليهو- درساً بكل تأكيد نحن في أمسّ الحاجة إليه. قد يقول البعض أنه درس صعب، ولكن كلا فإن فقط عشنا في حضرة الرب وفي الشعور المستمر بأننا في ذواتنا لا شيء وبأنه هو فيه كل الكفاية لا بد أننا ندرك السر الثمين لكل خدمة فعالة. ندرك كيف نعتمد على الله وحده وبذلك نكون مستقلين عن الناس بمعنى الكلمة. عندئذ يمكننا أن ندرك عمق وقوة معنى كلمات أليهو التالية "لا أحابين وجه رجل ولا أملّث إنساناً. لأني لا أعرف الملث. لأنه عن قليل يأخذني صانعي" (ع21، 22) إنه يخبر أيوب وأصحابه جليّاً بأنه لا يعرف كيف يملّث (يداهن) إنساناً وهنا صوت "الحق" يرّن في آذاننا بوضوح تام.
إن الحق يضع كل إنسان في مكانه الخاص ولأنه يفعل ذلك لا يمكنه بحال أن يداهن مخلوقاً مذنباً حقيراً مهما كانت المداهنة مشبعة لقلب ذلك المخلوق. يجب أن يعرف الإنسان ذاته ويرى حقيقة حاله ويعترف بما هو عليه حقيقة. هذا عين ما كان أيوب في حاجة إليه إنه لم يكن يعرف ذاته ولم يستطع أصحابه أن يوصّلوه إلى تلك المعرفة كان يحتاج إلى من يقوده إلى الأعماق، الأمر الذي لم يستطعه أصحابه على الإطلاق، كان يحتاج إلى إدانة الذات، الأمر الذي عجز عنه أصحابه تمام العجز، ليس هكذا أليهو إنه يتخذ وجهة أخرى تختلف عن وجهتهم تمام الاختلاف إنه يسلّط نور الحق على ضمير أيوب وفي الوقت نفسه يقدّم إلى قلبه بلسم النعمة الثمين الشافي.
أليهو لم تكن بينه وبين أيوب مخاصمة، ولا ينزل إلى ساحة الآخرين ليخاصم أقوالاً غير مجدية. فإن ما ران عليهم من صمت لهو دليل، أقطع دليل، على أنهم قد غلبوا على أمرهم. والآن هو يتكلم. إذ هو ملآن، ولا بدّ أن ينفّس عن الروح التي تشتعل في داخله والتي تشبه الخمر الجديدة، تحاول الانطلاق. فهو محصور. والضرورة موضوعة عليه. وكم يختلف هذا عن المناقشات والحجج المتحذلقة التي أرغم أيوب أن يستمع إليها، أو عن الاندفاع الذي انطوى على قلة من الحكمة والعدالة. وهنا نتذكر قول الرسول "الضرورة موضوعة عليّ". كما أن أليهو لم يلجأ إلى كلمات الإطراء. هو لم يكن يحابي الوجوه، الأمر الذي أهلّه لأن يتكلم نيابةً عن الله. وذلك جميعه عظيم بديع. ثم إن أقواله لم تخل من رنّة السلطان. "وليس كالكتبة". السلطان الذي ينبّئ عن شخص يعرف لماذا يتكلم.
- عدد الزيارات: 13857