الإصحاح الثاني والثلاثون: خواء وخيبة الخصومة - أسباب سكوته
(ع6-10) أسباب سكوته.
والآن يعلل سكوته بعبارات ملؤها المجاملة واللباقة. على أن مجرد كثرة الأيام ليس هو الذي يهب الحكمة، بل الروح المعطاة من الله. نسمة الله التي تجعل الإنسان المائت يختلف عن البهائم والحيوانات. فإذا ما تكلم أليهو عن حكمة الله، فمن حقه أن يسمعه الباقون.
"فأجاب أليهو بن برخئيل البوزي وقال أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأي فقلت الأيام تتكلم وكثرة السنون تظهر حكمة". وهكذا كان يجب أن يكون "ولكن في الناس روحاً" شيئاً أسمى من الاختبار فالروح هي أسمى جزء في طبيعة الإنسان. إن الجسم هو الإناء الخارجي والنفس هي التي تجعل الإنسان إنساناً وقد تكون عامة مشتركة بين الناس في حين أن لكل إنسان روحه الخاصة التي تميزه عن عداه. فمثلاً: جاء عن يوحنا المعمدان أنه جاء في روح إيليا وقوته وما كان ممكناً أن يقال عنه إنه جاء في نفس إيليا. لأن كل واحد إنما يأتي في نفسه الخاصة فالنفس هي مركز الشخصية. ولكن الروح هي طاقة الإنسان وقدرته. ولكن النفس والروح تسيران معاً في تشابه عجيب لدرجة أنه يصعب على أي ذكاء بشري التمييز بينهما، فهما مرتبطتان ومتحدتان معاً لكونهما من طبيعة روحية وعندما يموت الإنسان تصعد نفسه وكذلك تصعد روحه. كلاهما يصعدان، ويصعدان معاً بالضرورة.
ومن هنا نفهم قوة القول "إن في الإنسان روحاً". فالروح معناها الطاقة الروحية، وهذه لا تقاس بالاختبار، فقد يكون لدى الإنسان الشاب طاقة روحية أكبر جداً مما عند الشيوخ وهذا كان الحال مع أليهو الذي يقول بعد ذلك "ونسمة القدير تعقلهم" إن الله هو الذي نفخ في الإنسان نسمة الحياة وفي تلك النتيجة لم تكن النفس فقط بل الروح أيضاً.
وهذا هو السبب في أن الإنسان وحده نفساً خالدة. إن الله لم ينفخ قط في أي حيوان على الأرض ولكنه نفخ في الإنسان وحده ومن أجل ذلك فإن نفس الإنسان وروحه خالدتان، ولكنه قد يكون خلوداً في جهنم، أو قد يكون خلوداً مباركاً في السماء، فهو خلود لا يمنع الإنسان من أن يكون خاطئاً ولا من تحمل نتائج ذلك، ولا هو يمنعه من الجهة الأخرى-بالأولى- من اقتبال الحياة الأبدية من الرب يسوع. فعندئذ تعطى له حياة أخرى.
إن خدمة أليهو تمتاز بميزة خاصة وتختلف تمام الاختلاف عن خدمة الأصحاب الثلاثة. إنه يدخل الله في الأمر ويضع حداً نهائياً للمجادلة بين أيوب وأصحابه فهو لا يحاجج على أساس الاختبار ولا يستند على التقاليد القديمة ولا ينطق بنبرات الناموس والقضاء ولكنه يحضر الله وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء كل مجادلة وإسكات كل فم وإبطال كل حرب كلامية. دعنا الآن نسمع ماذا يقول هذا الشخص العجيب "وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام لأنه أكثر منه أياماً فلما رأى أليهو أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة حمي غضبه".
لاحظ القول "أنه لا جواب" ففي كل حججهم وبراهينهم وفي كل إشاراتهم إلى الاختبار والتقليد والقضاء لم يكن هناك من جواب، هذه نقطة مليئة بالتعليم والإرشاد فأصحاب أيوب قد طرقوا كل باب وجالوا في كل ميدان قالوا أشياء حقيقية كثيرة وجرّبوا أجوبة عديدة ولكنهم مع كل ذلك لم يجدوا جواباً. نعم فإنه لا يوجد في دائرة الأرض أو الطبيعة أي جواب للقلب المتمسّك ببرّه الذاتي. الله وحده يستطيع الإجابة على قلب كهذا وسنرى ذلك في النتيجة. والقلب الغير منكسر يستطيع أن يجد جواباً حاضراً لكل من يتكلم معه ماعدا الله.
هنا ابتدأ النور الإلهي أو بالاحرى نور الوحي ينبثق ويلقي شعاعه على المشهد ويبدد تلك الغيوم الكثيفة التي سببتها مجادلة الألسنة ونحن نشعر بما هنالك من قوة أدبية جديدة في ذات اللحظة التي ابتدأ فيها هذا الخادم المبارك يفتح شفتيه لا بل نشعر إننا نسمع رجلاً يتكلم كما بأقوال الله. رجلاً يعرف تماماً إنه واقف في حضرة الله. رجلاً لا يستمد روحه من مخزن اختباره الحقير الصغير ذي الوجه الواحد، كما أنه ليس بالرجل الذي يستشهد بالآثار القديمة البالية أو بالتقاليد المشّوشة المربكة أو بأصوات الآباء المتضاربة كلا فأمامنا رجل يقودنا توّاً إلى حيث "نسمة القدير" نفسه.
"ليس الكثيرون هذه الأيام حكماء ولا الشيوخ يفهمون الحق" كلا "لذلك قلت اسمعوني أنا أيضاً أُبدي رأي" فهو لم يحاول أن يقاطع أحد قط، بل سكت سكوتاً ولم ينطق بكلمة واحدة. يدهش البعض أحياناً إذ يجدون هذا الشاب يبرز فجأة في الميدان بعد أن يصمت ليس الأصحاب الثلاثة فقط بل أيوب أيضاً.
- عدد الزيارات: 13860