الإصحاح الثاني والثلاثون: خواء وخيبة الخصومة - مقدمة تفسيرية
(ع1-5) مقدمة تفسيرية.
هذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها أليهو. فلا نقرأ عنه بين زمرة أصحابه الذين زاروا أيوب: أليفاز، بلدد، صوفر. ولئن لم نجد أي قول مباشر عن هذا الأمر، فليس من غير المحتمل أن أشخاصاً آخرين بخلاف هؤلاء الأصحاب كانوا قد جاءوا ورحلوا خلال المجادلات. ومهما يكن من أمر فإن أليهو كان طوال الوقت مستمعاً شغوفاً، ولذا فقد كان في مركز يؤهله للكلام عندما سكت الآخرون.
وفي دلالة اسمه مناسبة كبيرة "إلهي هو" فهو لا يتكلم عن نفسه لحساب نفسه، بل عن الله ولحساب الله. ومن هنا فهو رمز لسيدنا الذي كانت غايته الوحيدة أن يتكلم نيابةً عن الآب، "عرّفتهم اسمك" (يوحنا 17: 26).
إن كلمة أليهو التي تعني "إلهي هو" يمثل أمام الذهن الروحي صورة الرب يسوع المسيح الذي هو "الكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد" (رومية 9: 5) "الله ظهر في الجسد، الوسيط الوحيد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح".
والنقطة التي عندها يظهر أليهو في المشهد تستدعي منّا التفاتاً خاصاً. فقد فشل الأصحاب الثلاثة تمام الفشل عن معالجة أيوب لأن خدمتهم كانت ذات وجه واحد، فقد سلطوا عليه كمية كبيرة من الحق ولكن بدون النعمة (ص25: 4-6). فقد استطاعوا أن يجرحوا ولكن لم يمكنهم أن يعصبوا لذلك نرى أيوب من حين إلى آخر ينطق بمرارة في نفسه قائلاً "صحيح أنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة" "أطباء بطّالون كلكم" "معزون متعبون كلكم" "حتى متى تعذبون نفسي" "تراءفوا أنتم عليّ يا أصحابي".
هذه هي الكلمات التي فاضت بها نفس أيوب تحت تأثير خدمة أصحابه ذات الوجه الواحد ومع أنهم كانوا بلا شك مخلصين وصالحي النيّة إلاّ أنه كانت تعوزهم النعمة ولذلك لم يستطيعوا أن يخبروا أيوب أين يجد من يبحث عنه. لم يستطيعوا أن يعينوا من لا قوة له، ولا أن يشيروا على من لا حكمة له ولا أن يعصبوا الجريح ولا أن يعالجوا المريض. فلهجتهم كانت ناموسية قاسية وأمثال هؤلاء لا يصلحون لمعالجة الخاطئ المسكين الأثيم. لأنهم يطلبون أن يقف الشخص أمامهم كاملاً بلا عيب ولا جرح ولا وجع. أما إن وجدوا هناك جرحاً فحينئذ ينظرون إليه بكل حدة سائلين عن سبب ذلك الجرح، حقاً إنهم أطباء بطّالون وإن وجدوا هناك مصاباً فحينئذ يسألون بكل قساوة عن سبب ذلك المصاب.
لذلك كان من الطبيعي أن هؤلاء الأصحاب لا يصلون إلى التفاهم مع أيوب لأنهم طلبوا منه ما لا يمكنه تقديمه، وهو كان محتاجاً إلى ما لم يمكنهم إعطاؤه له فكانوا يتكلمون معه على أساس غير صحيح وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا أن يوصلوه إلى الأساس الصحيح لمجاوبتهم فهو كان يبرر نفسه وهذه غلطته وهم كانوا يدينونه وذلك نقصهم ولو أنهم تبادلوا مراكزهم معاً لأمكنهم الوصول إلى نتيجة. أما على حالتهم تلك فلم يصلوا إلاّ إلى أخذ ورد بلا نهاية. لأنه لم يرضَ أن يعترف أمامهم بشيء وهم لم يرضوا أن يتسامحوا معه في شيء. وعلى ذلك انقطع كل أمل في التفاهم.
وهنا برز أليهو فكان الرجل الكفء لهذا الموقف. وُجد ومعه العلاج الذي يحتاجه أيوب ولم يستطع أصحابه أن يقدموه له. فقد كان هو الرجل الذي طلبه أيوب وتمنّى أن يقف أمامه. وها هو قد وقف أمامه في شخص أليهو الذي يرمز لربنا المبارك الذي فيه قد أتت النعمة والحق "الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" وفي هذه الكلمات يظهر بهاء مجد الرب يسوع الأدبي ومجد خدمته. فقد أتى بالحق لإظهار حقيقة حال الإنسان وبالنعمة لمعالجة تلك الحالة التي أظهرها الحق.
فالحق يضع الخاطئ في مركزه الصحيح والنعمة تأتي بالله إليه حيث هو: فالنعمة لا تستطيع أن تعمل بدون الحق. والحق لا فائدة في عمله من دون النعمة. وكلاهما مرتبطان معاً في خدمة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. وكل منهما له مجد خاص ولكن ذلك المجد يزداد تألقاً عندما ننظر إليهما في ارتباطهما معاً. فالحق الذي يبيّن ويقرّر مطاليب الله يزداد بهاء ولمعاناً لارتباطه بالنعمة، والنعمة التي تسدّ أعواز الخاطئ يزيدها جمالاً أنها ترتكز عل أساس الحق وسنرى هذين العنصرين. النعمة والحق واضحين في خدمة أليهو التي نتأمل فيها الآن.
هو ابن برخئيل الذي يترجم "ليت الله يبارك". ومن هذه الدلالة نستطيع أن نتبيّن أن بركة الله أو رضاءه هي من نصيب الشخص الذي يقف إلى جانبه تعالى فحسب "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" وكابن برخئيل. لنا في هذه النسبة فكرة عن العلاقة أو النسبة القائمة بين سيدنا وبين الآب "ابن المبارك" وقد كان أبداً هكذا: فلما جاء إلى العالم استطاع أن يقول "إن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت". على أنه فيما عدا هذه الفكرة الكاملة نستطيع أن نستنتج أن بركة الله تنشئ الأمانة له وتصاحبها عل طول الطريق.
ثم نقرأ عن الأسماء العائلية "البوزي من عشيرة رام" كان بوز واحداً من أبناء ناحور، ولذلك فهو مرتبط بإبراهيم. أما رام فيفترض أنه اختصار للفظ آرام. تمييزاً للمنطقة التي أقامت فيها الأسرة. إذاً فقد كان أليهو من عائلة مشهورة وبلاد معروفة. لكن عندما نتأمل في دلالة هذه الأسماء. نجد تطابقاً عجيباً مع الأقوال السالفة. فإن اسم بوزي يترجم "المحتقر والمرفوض والمرذول". واسم رام يترجم "المرتفع، المعظّم". ونحن نعلم على من تصدق هذه التسميات. "محتقر ومخذول من الناس" "يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً" وهكذا نجد تأييداً توضيحياً لمركز أليهو وعمله الرمزيان. والآن نتقدم إلى الخطاب.
لما كفّ الأصحاب الثلاثة عن الكلام، وتُرك أيوب متحصناً في بره الذاتي، حمي غضب أليهو مضاعفاً، ضد أيوب لأنه فشل في تمجيده الله بواسطة الاعتراف ببره تعالى، وضد الأصحاب لإصرارهم العنيد على اتهاماتهم بينما عجزوا عن إقامة الدليل على صحة دعاواهم. وفي هذه الكلمات الموجزة تتضح وجهة نظر أليهو. أما الأعداد الباقية من الجزء الأول فإنها تفسّر كياسته في بقائه صامتاً. بسبب حداثته وشيخوختهم.
"على أيوب حمي غضبه لأنه حسب نفسه أبر من الله" هذا حق أن أيوب يرد نفسه، فالإصحاح السابق (31) الذي فرغنا منه كان كله من أوله إلى آخره يدور حول تبرير ذاته. إنه كان يتناول حقائق لا شك فيها ولكنها لم تكن لائقة في معرض الحديث عن معاملات الله ولماذا حلّت به هذه الكارثة العظيمة".
"وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه لأنهم لم يجدوا جواباً واستذنبوا أيوب" ونحن نسأل: ما الذي عاق هؤلاء الأصحاب الثلاثة عن فهم أيوب؟ الجواب نفس الشيء الذي أعاق أيوب نفسه. وهو الذات. فالذات لم تُدان. والواقع أن الذات هي إحدى الصعوبات الكبرى في طريق المسيحي كما هي في طريق الخاطئ.
"وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام لأنه أكبر منه أياماً" نعم وذلك كان جميلاً منه.
"فلما رأى أليهو أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة حمي غضبه" ولماذا؟ ليس من أجل نفسه يقيناً، ولكنه غضب عليهم من أجل الله.
- عدد الزيارات: 13862