الإصحاح الحادي والثلاثون: إعلان زكاوته (زكيٌّ أنا) - تأكيد العفة والاستقامة
(ع1-12) تأكيد العفة والاستقامة.
نأتي الآن إلى إصحاح متميّز جداً عن كل من سابقيه ويمثّل استئناف "أيوب الأخير" لله، فهو يوجه الكلام هنا إلى الله أكثر من توجيهه إلى الأصحاب الثلاثة. فقد كان يضرب على وتر الماضي البهيج في إصحاح (29) ثم على وتر الحاضر التعيس في إصحاح (30) والآن يوجّه استئنافه الخطير لله على مسمع منهم جميعاً.
"عهداً قطعت لعيني فكيف أتطلع في عذراء؟ وما هي قسمة الله من فوق؟ ونصيب (أو ميراث) القدير من الأعالي؟" لا شيء على الإطلاق لرجل فاسد. "أليس البوار (أو الخراب) لعامل الشر؟ والنكر (أو المصيبة الثقيلة) لفاعلي الإثم؟ أليس هو ينظر طرقى؟"، لقد كان أيوب رجلاً مؤمناً باراً للغاية. "ويحصي جميع خطواتي؟ إن كنت قد سلكت مع الكذب أو أسرعت رجلي إلى الغش. ليزّني في ميزان الحق فيعرف الله كمالي"، كان له ضمير صالح جداً ولكن ذلك لا يكفي فهناك المبدأ العظيم الخاص بالخضوع المطلق لله وتبريره في كل طرقه وأعماله. وإنه محق وحكيم في كل شيء، ليس فقط فيما يفعل بل أيضاً فيما يسمع به، فالكل للخير، قد يبدو الأمر رديئاً جداً من ناحية الآخرين. كما كان الحال من ناحية أصحاب أيوب، ولكن الله كان له مقصد خير في هذا كله.
من الواضح أن أيوب كان رجلاً خالياً من العيب في سلوكه وحتى في حالة قلبه. ففي مطلع هذا الاحتجاج السباعي. الاحتجاج بالطهارة والاستقامة، يتناول أيوب جانباً من خلقه ومسلكه، لم يحاول حتى أصحابه أن يتحدوه بشأنه علناً. فإنه مهما تكن تلميحاتهم إلى الشر العام- الانحراف عن الله، قسوة المعاملة مع المعوزين وغيرهم فإنهم لم يلمسوا موضوع الطهارة الشخصية.
على أنه كان لا بدّ أن يتبرأ أيوب قدام الناس وقدام الله، فلا مفر من بحث هذا الشق من حياته. وإننا لنراه يقدم على مناقشته في جرأة الإحساس بالطهارة. فعيناه- مدخل القلب- قد أغلقتا عمداً وبكل إصرار: فقد قطع "عهداً" حتى ضد النظرة إلى ما قد يثير العاطفة. وسيدنا الكريم في موعظة الجبل قد بيّن أن الطهارة الجوهرية ينبغي أن تكمن في القلب وليس في مجرد الامتناع أو التعفف في المسلك الخارجي (متى 5: 27، 28). وفي طريق إثبات طهارته، يعلن أنه كان مسوقاً بخوف الله الذي لا بدّ أن يجازي الأشرار عن خطيتهم. "ومرة قال يوسف يوم هاجمته التجربة كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله". أما داود، ففي ساعة من الركود الروحي، فقد سمح لعينيه أن تجولا، ومن ثمّ سقط. وهكذا كان أيوب يحسّ بأن الله يرقب كل خطوة يخطوها، فطلب أن يمتحنه وأن يزنه في الميزان (ع5، 6).
ويبدو أنه يتكلم هنا عن الاستقامة والكمال بصفة عامة. وفي عددين تاليين، غير أنه يعود إلى الموضوع العام الذي بدأ به، ويتناول خطية الزنا ضد القريب (ع9-12). في كل ذلك كان زكياً طاهراً، يهون عليه أن يغتصب بيته إذا كان الأمر غير ما يؤكد. وهنا نجد لمحة عن حياته الأسرية التي تتعادل في القداسة مع حياة اسحق ويوسف وأقدس الآباء.
لكن ينبغي أن نلاحظ البر الذاتي الذي دفع أيوب للحديث هكذا عن نفسه. فقد كان يكسو نفسه بدلاً من أن يعطي المجد لله. من المؤكد أنه في صميمه كان رجلاً صحيح التقوى، غير أنه ليس من الفخر أن يعلن الإنسان مجده.
- عدد الزيارات: 17096