الإصحاح التاسع والعشرون: إحساناته تمدحه - معزٍّ المكروب
(ع21-25) معزٍّ المكروب.
"لي سمعوا وانتظروا وأنصتوا عند مشورتي، بعد كلامي لم يثنوا. وقولي قطر عليهم وانتظروني مثل المطر وفغروا أفواههم كما للمطر المتأخر. إن ضحكت عليهم لم يصدقوا" أي أنهم كانوا يعتبرون ذلك شيئاً أسمى من أن يكون حقيقياً (ونور وجهي لم يعبسوا. كنت أختار طريقهم وأجلس رأساً (أو رئيساً) وأسكن كملك في جيش، كمن يعزي النائحين" إنه لا يدهشنا أن يكون اليهود أول الناقدين الناكرين لهذا السفر فهم. أي اليهود المتفلسفون- لم يصدقوا أن قصة أيوب حقيقية شأنهم في ذلك شأن سائر النقاد العقليين.
أما إلى أي مدى وجدت هذه القصة طريقها إلى المجمع اليهودي بصفة عامة فهذا ما لا نستطيع أن نقرره على وجه التحقيق سوى إننا نؤمن أنه كان هناك ولا شك أناس بسطاء القلب كانوا يؤمنون بكل كلمة في هذا السفر الإلهي ولكن من أكبر الأسباب التي جعلت اليهود لا يقبلون هذا السفر هو أن أيوب لم يكن يهودياً، إن هذا لا يمكن أن يكون إن جميع الأمم في نظر اليهود كلاب- كل شخص ماعدا اليهودي- هذه هي عقيدتهم. أما أن يقال عن أيوب الأممي أنه كان من الاستقامة بحيث لم يكن مثله في كل الأرض وهو ما لم يقله الله عن إبراهيم ولا عن اسحق أو يعقوب فهذا ما لا يمكن تصديقه من جهة اليهود. كانوا يعرفون أن الأمر يتعلق بواحد من آباء تلك الأيام ولذلك فإنهم رفضوا رفضاً باتاً إمكان تعظيم الله لواحد لم يكن من الجنس المختار ولا من العائلة أو الأمة التي لها المواعيد.
وهنا نسأل ما هو الباعث الحقيقي الذي يجعل الناس كفرة ملحدين أو فلاسفة ناقدين. الجواب هو أنهم يفضلون أفكارهم الشخصية عن كلام الله. ذلك هو السر في عدم الإيمان هذا ما يجعل الشخص عديم الإيمان وقد يتطور الأمر فيصير كافراً ملحداً. أو بمعنى آخر إنساناً هالكاً.
يبدو أن هذا الجزء الأخير من الإصحاح يعود إلى عظمته وحكمته. غير أن هنالك قدراً من التطور بالنسبة للتعبيرات السابقة. فعلى صنائع إحساناته- لا على رفقائه المستشارين- كانت تبدو آثار قراراته. فكان القرار الذي يصدره بمثابة الكلمة الأخيرة بالنسبة إليهم، ومع ذلك فلم تكن أقواله كالأحكام القاسية يصدرها قاضي لا يرحم، بل رقيقة مثل قطر الندى وبسمته كانت شعاع من نور تضيء لهم. على أن الفكرة هنا غامضة نوعاً ما.
هل يقصد أيوب أن يقول أن ابتسامته كانت بركة لهم، أو إنها كانت علامة على رضائه الدائم؟ غير أن الفكرة المألوفة ليست غامضة فإذا كانوا هم في شك أو مشقة فإن ابتسامته كانت طمأنينة لهم، وليس في مقدور أي حزن من جانبهم أن يغيّر ابتهاجه. لقد كان ملكاً بينهم يحملون له من التوقير ما يكاد يقارب حدّ العبادة.
ولكن، أين هو الآن من تلك الكرامة؟ التفكير في وضعه الراهن إنما كان يضاعف تعاسته.
ولن يستطيع ما تخلّف عن تلك المباهج العابرة من رماد، أن يحمل الدفء لقلبه العاني التعيس، إنما ذرات الرماد تغذي لهيب تلك الكبرياء التي تشتعل ويزداد اشتعالها وسط خرائب ماضيها.
- عدد الزيارات: 14943