الإصحاح التاسع والعشرون: إحساناته تمدحه - الرخاء في البيت
(ع1-6) الرخاء في البيت
يستهل أيوب حديثه بالقول "يا ليتني كما في الشهور السابقة" والحقيقة إنها دائماً علاقة رديّة عندما يتطلع الإنسان إلى الخلف ويركز انتباهه فيما مضى. أليس لنا أن نتقدم وننمو؟ أيجوز أن تنحصر كل مشغولية أولاد الله في إحسانه العظيم الماضي وكفى؟ لا شك أن كلاً منا قد انتزع انتزاعاً من بين أنياب الشيطان ولكن ما هذا بالمقارنة مع التقدم في معرفة الله والنمو في النعمة نمواً إيجابياً؟
لا شك أن إنقاذنا من الهلاك شيء عظيم للغاية، ولكن أليست معرفة الله أعظم بما يقاس من مجرد عمل النعمة في خلاص الخاطئ المسكين البائس؟ إنه من الجميل أن يتذكر الخاطئ دائماً أمر خلاصه ويشيد به فرحاً، ولكنه من المحزن أن يرجع ببصره إليه كأسمى وأبهج شيء في حياته المسيحية، فذلك يدل على أنه لم يتقدم في حياته إطلاقاً.
وأنه كان دائماً يتطلع إلى ذلك العمل كالإحسان الإلهي الوحيد الذي استحوذ على كل كيانه. ولكن كلا، فالحياة الإلهية هي بكل يقين حياة استمتاع متزايد لا يقف عند حد، وقوامها النمو في النعمة وفي معرفة المسيح والله. وهذا الكلام يقصد به المؤمنين المتجددين بطبيعة الحال.
ولكن حتى في حالة أيوب لم يترك الله نفسه بلا شاهد، فإن الله يتلاقى دائماً مع النفوس التي تسير معه بإخلاص. فمن ذا الذي يشك في أن أخنوع سار مع الله، وهل يظن أحد أن أخنوع كان يتطلع إلى أول لمحة أخذها عن الله ويقول إنه عرف الله بهذه اللمحة مهما كانت في ذاتها مجيدة وبهيجة. كلا إن أخنوع كان يسير مع الله متشوقاً باستمرار إلى الاستزادة من معرفته.
إن الكثيرين من المسيحيين للأسف يقفون عند نقطة الخلاص، ويجعلونها المحور الذي يدورون حوله حتى لقد صارت لغتهم لا تخرج عن هذه الدائرة، ولكن ذلك في الواقع يدل على إنهم يجهلون معنى المسيحية وما هو المسيحي الحقيقي؟ إنهم يفكرون فقط في اللحظة التي فيها صاروا مؤمنين مسيحيين. ويبدو أنهم يظنون أن هذا هو الشيء الأعظم في حياتهم.
لا شك أن المسيحي بخلاصه قد عبر الحدود وانتقل من دائرة الظلام والموت إلى دائرة النور والحياة- مجرد عبور للحدود- ولكنه ليس الدخول فيما وراء ذلك من أنوار وأمجاد... فأين الوليمة وأين العيد. أين فرح الآب، أين الحلة الأولى ومتعلقاتها الأخرى المجيدة؟. كلا. ولكنه كان تالياً للخلاص ويعطينا بصورة رمزية مكان البركة الإيجابي أو "النعمة التي فيها نقيم" في الوقت الحاضر وليس مجرد النعمة التي أنقذتنا في الماضي. أنه مكان النعمة المستديم نتمتع به أكثر فأكثر على قدر نمونا في معرفة الله والحكم على ذواتنا. ولكن هنا بالذات كان فشل أيوب لقد كان معجباً بنفسه، ولذلك هو يتطلع إلى الوراء. ويقول "يا ليتني كما في الشهور السالفة" ولم يدر أن الله كان معترفاً أن يفعل له ما هو أحسن من ذلك بكثير صحيح أن أيوب اجتاز عملية غربلة قاسية جداً ولكن ذلك لخيره، وليس لخيره فقط بل لخيري وخيرك وخير كل المؤمنين الذين استفادوا من هذا السفر النفيس منذ كتابته. فقد قصد الله به أن يكون بركة للجميع. لم يكن المقصود بطبيعة الحال أن يقوم إنسان آخر يجتاز نفس الاختبار بنجاح، فالله قد سرّ واكتفى بما أظهره أيوب من احتمال للتجربة باعتباره بشر كما هو مكتوب "قد سمعتم بصبر أيوب" ولكن في هذا بالذات- أي الصبر- فشل أيوب، فشل حتى أنه أخيراً أظهر الضجر وعدم الصبر حتى مع الله، والسبب لأنه لم يكن بعد الرجل المنكسر انكساراً تاماً وكان لا بد أن تنكشف له ذاته فيعرف حقيقة نفسه.
آه. ما أندر أن يجد الإنسان حتى الآن قديساً من قديسي الله تنطبق عليه هذه الحالة التي يجب أن يكون عليها كل قديس من قديسي الله، ولكن ذلك في الواقع شيء نادر حتى بين المسيحيين "وكالأيام التي حفظني الله فيها. حين أضاء سراجه على رأسي وبنوره سلكت الظلمة. كما كنت في أيام خريفي (أو أيام شبابي)... ولماذا؟ إن هذا الشيء غريب حقاً. "خريفي أو شبابي"- فلا تقدم مع الله في دور نضوجه أو شيخوخته! فيم كان يفكر أيوب وإلام كان يرمي؟.
"والقدير يعد معي وحولي غلماني". ألم يكن القدير معه وهو ينطق بهذه الأقوال؟ ذلك ما لم يره أيوب عندئذ وذلك ما لم يعرفه. "إن من يحبه يؤدبه" ذلك درس من دروس سفر أيوب العظمى لا شك أنه كان تأديباً مريعاً- لدرجة أن جعل الأصحاب الثلاثة يظنون أنه كان عقاباً جزائياً وقصاصاً انتقامياً وإنه كان من المستحيل على أي شخص أن يتحمل مثل هذه الدرجة القصوى من الألم ما لم يكن منافقاً شريراً إلى أقصى حد وما لم يكن قد اقترف إثماً شنيعاً. ومما زاد الأمر شناعةً أن أيوب كان يبدو بحسب الظاهر رجلاً باراً وصالحاً مما جعلهم يظنونه مرائياً كبيراً. وفي هذا كانوا مخطئين غاية الخطأ وقد ترتب على ذلك أنه كان عليهم أن يدركوا أنهم أقل من أيوب، وأنه كان على أيوب أن يصلي من أجلهم حتى لا يموتوا. وهذا ما فعل أيوب في نهاية الأمر.
"إذا غسلت خطواتي باللبن" طبعاً الكلام هنا مجازي. "والصخر سكب لي جداول زيت". ومن هذا ترى أن البترول شيء قديم في هذا العالم.
هي علامة تكاد تكون دائمة، علامة على الشيخوخة أن يضطر الإنسان للرجوع إلى الماضي ملتمساً فيه آثار الرضا الإلهي. وهي عرضة أن تكون مرتبطة بكبرياء الماضي العابر، وبالعزيمة الخائرة في الوقت الحاضر.
ففيما يتصل بأمور الله، نحن نتمتع برضائه الشخصي، وسراجه يضيء علينا الآن، وبركته على ضيقاتنا. والمستقبل متفتح أمامنا حلواً بهيجاً "نفتخر على رجاء مجد الله". وإذا نظرنا إلى الماضي، فإنما إلى النعمة ننظر النعمة التي خلّصتنا وشعارنا المسيحي، شعار كل مسيحي، هو "أمتد إلى ما هو قدام".
فأن بولس صاحب هذا القول، يعده خسارة ذلك الماضي الذي كان يفتخر فيه ماضيه في اليهودية. حتى الخدمة الماضية، والشركة والفرح في المسيح، قد تركت في لفافة الماضي. فإن منّ الأمس لا يصلح لغذاء اليوم. ونور شمعة الأمس إنما هي فتيلة اليوم. لكنّ مسيحياً حاضراً في كل ملئه، لكنّ روحاً حاضراً يسدد بالكلمة حاجتنا، هذان هما الموضوعان الرئيسيان اللذان يشغلان من فكر المؤمن كل حيّز. فأيوب إذاً كان- من الخطوة الأولى- ينصرف إلى الاتجاه الخاطئ.
"كما كنت في خريفي". المقصود بالخريف الإشارة إلى وقت جمع الحصاد. وقت النضج الكامل، يوم كان كل شيء ناجحاً من حوله غلمانه- أي أولاده- كانوا حوله، كما نرى في الإصحاح الأول. والعدد السادس يبيّن لنا أنه كان مترفهاً في وفرة خيراته وموارده.
- عدد الزيارات: 14947