الإصحاح الثامن والعشرون: الحكمة التي تفوق كل تقويم - لا تعلنها الطبيعة
(ع12-14) لا تعلنها الطبيعة.
"أما الحكمة فمن أين توجد" كلا. لا توجد حكمة في هذا كله، وإنما الذات هي الهدف وهي الغاية. فهناك ما يجعل الإنسان غنياً. هناك ما يجلب المال وربما الحياة أيضاً. ولكن، أين توجد الحكمة؟ وأين هو مكان الفهم؟ ليس على الأرض وليس في تلك المناجم المظلمة حيث ينزل الإنسان ساعياً وراء مشتهيات قلبه. أين توجد الحكمة؟.
"لا يعرف الإنسان قيمتها ولا توجد في أرض الأحياء". يا له من شيء خطير جداً! الحكمة الحقيقية والفهم الحقيقي لا وجود له على الأرض إطلاقاً! إن الحكمة تأتي من السماء. إنها توجد فقط في المسيح. والمسيح لم يكن قد جاء بعد. والأكثر من هذا، إن رفض المسيح وموته قد أوضحا هذه الحقيقة بأجلى بيان بل زادها إيضاحاً أكثر من ذي قبل.
"الغمر يقول ليست هي فيّ" ففي القمر أو العمق توجد الفضة أو الذهب وأمثالها من المعادن والأحجار الكريمة.." والبحر يقول ليست عندي"
ومع أن الوصية للإنسان أن يطلب، غير أن هذه الحكمة لا توجد في الطبيعة، ولا عن طريق السعي البشري. ومن هنا السؤال: أين توجد الحكمة؟ وأين هو مكان الفهم، حيث يسكن ويقيم؟ الإنسان الزائل المائت لا يعلم، كلا ولا هو يملك ثمن الحصول عليها لأنها لا توجد في أرض الأحياء. فلو أنها كانت في المتناول، لتيسر للبعض الحصول عليها، رجل من الأغنياء كان يمكن أن يدفع ثمنها. لكنها بعيدة عن الإنسان، "فوقي ارتفعت، لا أستطيعها" في أعماق الغمر السحيقة "المياه التي تحت الأرض" يرنّ النداء لطلب الحكمة، ولكن لا جواب سوى "ليست هي فيّ" والبحر الواسع، في كل امتداده واتساعه العريض، لا يضم هذا الكنز الثمين. فالطبيعة في ذاتها أضعف من أن تزودنا بمفتاح بسيط لهذا الحيز السماوي العجيب.
فما هي تلك الحكمة، التي لها هذه القيمة المطلقة، ولا يمكن الوصول إليها؟ سيرد علينا بعد لحظة صاحب الحكمة ومنشؤها، وإنما يكفينا الآن أن نقول إنها معرفة الحق، نقتنيها من الله نفسه، علم لا ينفخ، ولا يفصل عن الله بل يهب النفس مبدأً حياً من السلام وغبطة الشركة معه. فلا عجب أن يبحث الإنسان بلا جدوى ويتعب من أجل هذا الكنز الثمين.
على أنه متى عُرف الله؟ فالطبيعة حينئذ تتحدث عنه حديثاً طليّاً فالأعماق التحتية وما فوقها تعلن مجده وسلطانه واقتداره. فهو ذا البحر الكبير الواسع الأطراف يتحدث عن عمق حكمته وعنايته وصلاحه. والأرض بعديد أشكال الحياة فيها تحدثنا عنه كمصدر كل حياة، كمن يصونها جميعاً، من أصغر شكل للنبات إلى أرقى الكائنات الروحية. وهو ذا أمامنا مزمور الخليقة العظيم (مزمور 104): هو يعلن "ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك" فكم هو محزن أن نرى أناساً على قدر كبير من سعة المعرفة مزودين بقوى جدلية عميقة- يحملقون في السماوات المجيدة لكنهم يفشلون أن يجدوا الله هناك أو يجدوا الحكمة، يحللون تراب الأرض ولكنهم لا يلاحظون الذي "كاله بالكيل". الحق أن أقوال الرسول تقرر هذه الحقيقة الخطيرة "العالم بالحكمة (أي المعرفة البشرية) لم يعرف الله" (1كورنثوس 1: 21). إذاً فكم هو شيء مبارك أن تكون لنا الحكمة الحقيقية "المسيح حكمة الله وقوة الله": لكن نعرفه عن طريق الصليب الذي ألغى كل كبرياء الإنسان وحكمته وبره وأعطانا عوضاً عنها المفتاح لكل حق "غنى المسيح الذي لا يستقصى"
إلى أننا في هذا الذي نقوله لا نتوقع الإعلان المسيحي كاملاً بيد أنه إذ لم يكن أيوب على سعة من الأفق بدرجة كبيرة. فقد كانت لديه. في القليل نواة لما هو عتيد أن يُعلن فيما بعد.
- عدد الزيارات: 18123