Skip to main content

الإصحاح الثامن والعشرون: الحكمة التي تفوق كل تقويم

ثانياً: الحكمة التي تفوق كل تقويم.

يستطرد أيوب في مناجاته فيحّدثنا في الإصحاح السالف عن قضاء الغنى الفاجر ليقيم مباينة بين هذا النوع من الغنى وبين الغنى الحقيقي الذي لن يضيع. وصلة الارتباط واضحة، والانتقال طبيعي وملفت.

فالجزء الاستهلالي من إصحاحنا هذا الثامن والعشرين يصف الجهد والاهتمام اللذين يدفعان الناس للسعي وراء الذهب الذي طالما لم يستجلب سوى الخصومة واللعنة تنصبّان عليه. ثم ينتقل إلى الغنى الحقيقي - الحكمة! أين توجد؟. البحث عنها في الأرض والبحر هباء، كلا ولا ثروة العالم يمكن أن تعدلها. إذن فأين مكان هذا الكنز الذي لا يقوّم؟ ظلال الموت المعتمة إنما تشهد لوجودها، لكنها لا تخبر كيف ولا أين سبيل الفوز بها. إنما تحصيلها من خلال إعلان الله، فلا في أعماله فحسب، بل في كلمته، يخاطب ضمير الإنسان وقلبه.

والإصحاح كله جميل ونبيل في أفقه وتعبيره، ينبئنا أن المتكلم يعرف ذلك الشخص المبارك الذي يصفه. وهذا الإصحاح يثبت أن أيوب لن يكون هو الشخص المرائي، الفاجر، الذي أراده أصحابه أن يكونه.

على أن الإصحاح برمته بعيد عن جو الخصومة. أيوب لا يحاول فيه أن يتمسك ببره، بل أنه، ولو مؤقتاً على الأقل ينسى ذاته ويتنسم هواء الحق الذي لم تفسده أنفاس سامة من البر الذاتي وعدم الإيمان ولا يسعنا إلا أن نلمس السمو الأدبي في هذا جميعه.

لقد فهم أيوب شيئاً مهماً وهو أنه من هذه التجربة التي أجازه فيها الرب سيخرج إيمانه كالذهب اللامع من بوتقة الصائغ (ص23: 10)، لكن الشيء الذي يجهله هو الشوائب التي عليه أن يتخلص منها "يوجد للفضة معدن وموضع للذهب حيث يمحصونه" (ع1 أنظر أيضاً زكريا 13: 9، ملاخى 3: 3). هذا الموضع هو بوتقة التجربة والالآم! إن الرب كالصائغ الحكيم يعرف مقدار قوة النار ومدتها لتنقية فضته وذهبه أي مفدييه الأعزاء. والجواهرجي يعرف شدة ضربات الأزميل التي يجب أن ينزلها على الأحجار الكريمة لكي تلمع جيداً. إن الإنسان في إمكانه أن يصنع أعمالاً عظيمة: قناطر، وأنفاق وطرق... الخ.

ويستخرج من الأرض كل ثمين (ع9-11) ولكن هناك شيء لا يهتم بالبحث عنه وهو الحكمة بالرغم من أنها أثمن من اللآلئ (ع18) أو الجواهر كما يعلن لنا سفر الأمثال الذي يحدثنا عن هذه الحكمة الإلهية (ص3: 15، 8: 11). قارن أيضاً التعريف الوارد في (ع28) مع (أمثال 9: 10، مزمور 111: 10).

*          *        *

ويمكن تقسيم هذا الإصحاح إلى سبعة أجزاء:

(ع1-6) كنوز الأرض.

(ع7-11) الكنوز المخبوءة.

(ع12-14) لا تعلنها الطبيعة.

(ع15-19) امتحان قيمتها التي تفوق التقويم.

(ع20-22) خبرها.

(ع23-27) المعلن.

(ع28) الإعلان.


(ع1-6) كنوز الأرض.

"لأنه يوجد للفضة معدن وموضع للذهب حيث يمحصونه" إن الذهب لا يوجد في شكل معدن أو عروق كما توجد الفضة، ولكنه يوجد في صورة تختلف عن ذلك كل الاختلاف. فقد يوجد في الغالب في صورة تراب أو سبائك في حين توجد الفضة في عروق كبيرة وغنية.

"الحديد يستخرج من التراب. والحجر يسكب نحاساً (أو النحاس يذاب من الحجر". وهنا بالذات حيث يوجد النحاس. يعطينا أيوب وصفاً عجيباً لعملية التعدين (أو العمل في المناجم) في العصور القديمة فيقول: "قد جعل (الإنسان) للظلمة نهاية وإلى كل طرف هو يفحص" بحثاً وراء هذه المعادن الثمينة -الذهب والفضة وما إليهما "حجر الظلمة وظل الموت". أي أنه يذهب إلى الأعماق بحثاً وراءهما.

"حفر منجماً بعيداً عن السكان. بلا موطئ للقدم متدلين بعيدين عن الناس يتدلدلون" وهو هنا يصف كيف يحفر الناس المناجم وكيف يتدلون إلى أعماق الأرض بعيدين عن الناس "أرض يخرج منها الخبز أسفلها ينقلب كما بالنار، حجارتها هي موضع الياقوت الأزرق" الأحجار الثمينة كالمعادن.

واضح أن أيوب كان ملماً بجميع عمليات التعدين، سواء من مستودعات شبه جزيرة سيناء الغنية، أو المستودعات الأقرب في أقاليم باشان وسوريا الحجرية. وإنه لعلى علم بمبلغ الجهد والصعاب في طريق البحث عن كنوز الأرض هذه، "الذهب الفاني". كل ذلك معلومات ومعارف يحصلها الإنسان الذي لا يضّن بجهد ولا يبالي خطراً في كسب تلك المخازن المرموقة.

هنالك منجم للفضة "الجائزة عند التجار" أو "عملة جارية عند التجار" وكم من جهد يُبذل في ذلك المعدن الأبيض اللامع الذي يُستخدم كثيراً في الشرق كوسيلة تبادل. ومن أسف أنه عن هذا الذي هو رمز (فضة الفداء لنفس الإنسان: خروج 30: 11-16، 38: 25-58) قلما يعرف الناس وقلما يُعنون. على أن أيوب لا يتكلم عن هذا.

والذهب كذلك، الذي يمحّص في النار ويصنعون منه زينة جمال وأكاليل ملكية- من أجله يرحل الناس إلى أقاصي الأرض. أما الذهب الحقيقي، بر الله في المسيح، فإن الناس يعاملونه كأن لا قيمة له. والحديد الذي هو ضرورة قصوى في كل مرافق العمل، يجهزونه من تراب الأرض بكثير من الجهود المعقدة الدقيقة. أجل فالإنسان يدأب من أجل هذه الضرورات الأرضية ناسياً الله الذي فيه وحده القوة. أما النحاس بما يقوم فيه من قوة لا تلين ولا تطاوع، فإنه يذاب من حجارته التي يكمن فيها، لكن أحكام الله التي لا تتغير، فالناس لا يقدرونها إلاّ قليلاً.

الإنسان في سعيه وراء هذه الكنوز ينقب في فجوات الأرض المظلمة على ضوء المصباح، جاعلاً للظلمة نهاية وهو يتغلغل إلى الأطراف القاصية في المناجم باحثاً عن "حجارة الظلمة" المحملة بالتبر- الحجارة المخفاة في الظلمة، إن أحشاء الأرض تشبه ظل الموت، وكم قبرت في أغوارها السحيقة رجل المنجم الحديدي، ولا شيء يعيده. لكن الناس يبذلون حياتهم من أجل الذهب. لا يقنعون بتربة الأرض الخصبة التي تخرج خبزاً لحاجة الإنسان، فيمزقونها ويقلبون أعماقها بحثاً، كالنار تحرق وتلتهم. وهذا في رأي المعنى الواضح للعدد الخامس. فالثروة، الذهب، الجواهر، المجد، هذه جميعاً هي ما يسعى إليها الإنسان ومن أجلها هو على استعداد أن يستبدلها بحياته ونفسه. ونظرة إلى تاريخ عمليات التعدين في الأزمنة الحديثة تؤيد كل ما قاله أيوب. ويا للطمع، والشهوة والظلم، التي تسود على تلك المواقع في جبال الشرق الجرداء وفي متجمدات يوكون (Youkon).

مباينة ما أعظمها مع الجهود الهادئة المسالمة في قطف وجمع المحاصيل السخية التي أعدها الله فوق سطح الأرض. وهنا نرى التعليم الرمزي والروحي في غاية الوضوح "إذ لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما" وليس معنى هذا أن هذه الأشياء الثمينة خاطئة في ذاتها، أو أن استخدامها بطريقة صحيحة أمر غير ضروري. غير أن السعي القلق خلفها برهان على قلب الإنسان الناعس إذ يركض وراء ما لن يشبع به. ولو أنه استغل وأظهر هذا الشوق العارم في البحث عن الغنى الحقيقي، فكم كانت تختلف النتيجة "يا ابني... إن رفعت صوتك إلى الفهم،.. إن طلبتها كالفضة وبحثت عنها كالكنوز فحينئذ تفهم مخافة الرب"(أمثال 2: 1-5).


(ع7-11) الكنوز المخبوءة.

"سبيل لم يعرفه كاسر ولم تبصره عين باشق" إن الطيور الكواسر لا سبيل لها إلى هذه الأعماق. إنها تصعد إلى الأعالي وتطوف كل سطح ولكنها لا تتجاسر على اقتحام المناجم. حيث يهبط الإنسان ولا حتى النسر (باشق). إن النسر يمتاز بحدة البصر كما نعرف، ولاسيما فيما يتعلق بالجيف الميتة. فحيث الجثة هناك تكون النسور وهكذا جعل الله النسور الكناسين الطبيعيين لعالم الموت المسكين الذي نعيش فيه.

"ولم تدسه أجراء (جمع جرو) السبع ولم يعده الزائر (أي لم يمر به الأسد) المزمجر".

"إلى الصوان يمد يده. يقلب الجبال من أصولها ينقر في الصخور سرباً وعينه ترى كل ثمين" فالناس عندهم حاسة فهم دقيقة بكل ما هو ثمين وإن لم يكونوا دائماً على حق فإن عمال المناجم في إنجلترا مثلاً قد ألقوا أحياناً كنفاية أشياء لها في الواقع كل ما كانوا ينشدونه من قيمة، ولكنهم كقاعدة عامة يعرفون كيف يميزون الأشياء ذات القيمة.

إن أحد علماء الكتاب المقدس يربط هذه الأعداد (7-11) بالأعداد السابقة رباطاً وثيقاً باعتبارها تنطوي على وصف البحث وراء مستودعات الأرض الثمينة، وجزء منها يتعمق في تفصيلات أدق. غير أن التشابه القائم بين (ع21)، العددين (7، 8) يوحي بأن أيوب يلمح حتى في مطلع الإصحاح إلى موضوعه الرئيسي - أي الغنى الحقيقي. والعدد (12) يؤيد هذا لذلك نحن نقبله.

هناك سبيل آخر غير عمائق الأرض، وغير آكام الجبال الشاهقة- هو سبيل الحكمة. فلقد رأينا أن الإنسان لا يستطيع أن يجدها في دفائن المناجم، وهنا نراها مجهولة من الطيور والوحوش إننا ونحن نرمق النسر صاعداً في الهواء- له العينان اللتان تبصران من بعيد أكثر منا، قد يراود الحنين قلوبنا في أن نحلّق فوق الأرض، ونرى ما لا نستطيع أن نراه هنا. 

غير أن تلك المرتفعات لا تعلن ما ينبغي أن يعرفه الإنسان لكي يكون سعيداً. والصحارى المنطلقة، التي يجول فيها الأسد الجبار غير مقيد بالخوف من الإنسان، لا تكشف عن كنز يرنو إليه القلب. والنُسّاك قاطنو البادية، قد فشلوا في الحصول على سلام نفوسهم بأصوامهم وتعذيب أجسادهم.

وإذ يعود أيوب إلى موضوع البحث عن الكنز، يصف ذلك المطلب الغير المجدي حيث يمد يده إلى الصوان (أو الحصى) ويقلب الجبال، فنراه يغسل ويغربل الحصى والرمال وينسف الجبال الراسخة. يقطع طريقه في العمق، متعقباً متتبعاً عروق المعدن كنهر في مجراه، ينظر بعيون شرهة إلى الكنوز الثمينة البراقة الراقدة هناك. فإذا جرت المياه، يجد الطريقة لتحويلها، حتى يتسنى له أن يتابع الثروة المخفاة الراقدة هكذا.

ومرة أخرى نتساءل: لماذا لا يتعب الناس هكذا من أجل "الحكمة المكتومة"؟ لماذا لا يسعون للتنقيب عنها وهي على غير بعيد منهم، بل لماذا، إذا اقتضت الحال، لا يطرحون بالإيمان جبال الصعاب؟ وإذا كان الاندفاع الغامر "لدهر هذا العالم" يود أن يكتنف ويطوي الغنى الحقيقي فلماذا لا يحول الناس دونه ويوقفونه، أو يحولونه عنهم لكي يقتنوا لأنفسهم هذا الشيء الذي تسمو قيمته على كل ثروة؟ فلا يزال صحيحاً أن "من يطلب يجد" ولو أن الطلب والوجود يختلفان عما يخلفه الجهد من أجل الذهب. إن الحكمة مكتوفة الأيدي، والسبيل إليها مجهول، لأن الله غير معروف والناس لا يصغون إليه تعالى.


(ع12-14) لا تعلنها الطبيعة.

"أما الحكمة فمن أين توجد" كلا. لا توجد حكمة في هذا كله، وإنما الذات هي الهدف وهي الغاية. فهناك ما يجعل الإنسان غنياً. هناك ما يجلب المال وربما الحياة أيضاً. ولكن، أين توجد الحكمة؟ وأين هو مكان الفهم؟ ليس على الأرض وليس في تلك المناجم المظلمة حيث ينزل الإنسان ساعياً وراء مشتهيات قلبه. أين توجد الحكمة؟.

"لا يعرف الإنسان قيمتها ولا توجد في أرض الأحياء". يا له من شيء خطير جداً! الحكمة الحقيقية والفهم الحقيقي لا وجود له على الأرض إطلاقاً! إن الحكمة تأتي من السماء. إنها توجد فقط في المسيح. والمسيح لم يكن قد جاء بعد. والأكثر من هذا، إن رفض المسيح وموته قد أوضحا هذه الحقيقة بأجلى بيان بل زادها إيضاحاً أكثر من ذي قبل.

"الغمر يقول ليست هي فيّ" ففي القمر أو العمق توجد الفضة أو الذهب وأمثالها من المعادن والأحجار الكريمة.." والبحر يقول ليست عندي"

ومع أن الوصية للإنسان أن يطلب، غير أن هذه الحكمة لا توجد في الطبيعة، ولا عن طريق السعي البشري. ومن هنا السؤال: أين توجد الحكمة؟ وأين هو مكان الفهم، حيث يسكن ويقيم؟ الإنسان الزائل المائت لا يعلم، كلا ولا هو يملك ثمن الحصول عليها لأنها لا توجد في أرض الأحياء. فلو أنها كانت في المتناول، لتيسر للبعض الحصول عليها، رجل من الأغنياء كان يمكن أن يدفع ثمنها. لكنها بعيدة عن الإنسان، "فوقي ارتفعت، لا أستطيعها" في أعماق الغمر السحيقة "المياه التي تحت الأرض" يرنّ النداء لطلب الحكمة، ولكن لا جواب سوى "ليست هي فيّ" والبحر الواسع، في كل امتداده واتساعه العريض، لا يضم هذا الكنز الثمين. فالطبيعة في ذاتها أضعف من أن تزودنا بمفتاح بسيط لهذا الحيز السماوي العجيب.

فما هي تلك الحكمة، التي لها هذه القيمة المطلقة، ولا يمكن الوصول إليها؟ سيرد علينا بعد لحظة صاحب الحكمة ومنشؤها، وإنما يكفينا الآن أن نقول إنها معرفة الحق، نقتنيها من الله نفسه، علم لا ينفخ، ولا يفصل عن الله بل يهب النفس مبدأً حياً من السلام وغبطة الشركة معه. فلا عجب أن يبحث الإنسان بلا جدوى ويتعب من أجل هذا الكنز الثمين.

على أنه متى عُرف الله؟ فالطبيعة حينئذ تتحدث عنه حديثاً طليّاً فالأعماق التحتية وما فوقها تعلن مجده وسلطانه واقتداره. فهو ذا البحر الكبير الواسع الأطراف يتحدث عن عمق حكمته وعنايته وصلاحه. والأرض بعديد أشكال الحياة فيها تحدثنا عنه كمصدر كل حياة، كمن يصونها جميعاً، من أصغر شكل للنبات إلى أرقى الكائنات الروحية. وهو ذا أمامنا مزمور الخليقة العظيم (مزمور 104): هو يعلن "ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك" فكم هو محزن أن نرى أناساً على قدر كبير من سعة المعرفة مزودين بقوى جدلية عميقة- يحملقون في السماوات المجيدة لكنهم يفشلون أن يجدوا الله هناك أو يجدوا الحكمة، يحللون تراب الأرض ولكنهم لا يلاحظون الذي "كاله بالكيل". الحق أن أقوال الرسول تقرر هذه الحقيقة الخطيرة "العالم بالحكمة (أي المعرفة البشرية) لم يعرف الله" (1كورنثوس 1: 21). إذاً فكم هو شيء مبارك أن تكون لنا الحكمة الحقيقية "المسيح حكمة الله وقوة الله": لكن نعرفه عن طريق الصليب الذي ألغى كل كبرياء الإنسان وحكمته وبره وأعطانا عوضاً عنها المفتاح لكل حق "غنى المسيح الذي لا يستقصى"

إلى أننا في هذا الذي نقوله لا نتوقع الإعلان المسيحي كاملاً بيد أنه إذ لم يكن أيوب على سعة من الأفق بدرجة كبيرة. فقد كانت لديه. في القليل نواة لما هو عتيد أن يُعلن فيما بعد.


(ع15-19) امتحان قيمتها التي تفوق التقويم.

في هذا الجزء الذي سنتعرض له الآن. نجد أيوب يتناول الكلام عن شيء له من القيمة ما لا يقّوم بمال، يمتحنه أيوب بكل ما يعده الإنسان كنزاً. فالذهب الخالص والفضة، ولو وُزنا بمعيار كبير، لا يشتريانه. وكذلك ذهب أوفير، والجزع الكريم والياقوت الأزرق "فدية الملك" لا مكان لها هنا. ومرة أخرى يجيء ذكر الذهب جنباً إلى جنب مع البلور اللامع. "ذهب نقي كزجاج شفاف".

والجواهر الجميلة النادرة: المرجان، اللآلئ- ثمن الحكمة يفوق هذه جميعها. وياقوت كوش الأصفر يرى بريقه منطفئاً إلى جانب جوهرة مجد الله المشرقة هذه. فالإنسان ينقّب الطبيعة عبثاً لعله يعثر على شيء يعادل هذه التي ثمنها يفوق كل الكنوز الأرضية. ألا ليت الناس يدركون هذا، حتى يجدوا تلك اللؤلؤة الوحيدة ذات القيمة الأبدية. وكل شيء بدونها تافه القدر، بلا قيمة.

فلو ملكنا العالمين، وكل كنز ونعيم

وما ربحنا ذا الأمين، لكان خسرنا عظيم


 (ع20-22) خبرها.

"الهلاك والموت يقولان بآذاننا قد سمعنا خبرها" أي نعم، هذا هو عين ما حدث، لقد كان هناك خير وأي خير، عن ذاك الذي هو نفسه الحكمة والذي هو معطي الحكمة للودعاء. إنه بالموت جاءتنا الحكمة ولكنهم لم يعرفوها فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة.

لكن لماذا الكلام عن هذا الشيء الذي كل بحث لا يجدي في العثور عليه، وكل ثروة لا تنفع ثمناً لشرائه؟ سؤال (العدد12) يتكرر هنا، ليس من قبيل اليأس في الجواب عليه، بل لكي يتبين الإنسان عدم جدوى المطلب الطبيعي "فمن أين تأتي الحكمة وأين هو مكان الفهم؟" صحيح أن الطبيعة تتحدث عن الحكمة لكنها لا توصلها للإنسان. يقول أحد الشعراء: "النجوم فوقنا صامتة، والقبور من تحت سكوت" على أنه لو كان للشاعر للسمع أذنان لاخترقت أذنيه همسة من القبور تقول له عن الحياة الحاضرة ليست كل شيء- إن الحكمة تكمن خلف الزمن "الهلاك والموت يقولان بآذاننا قد سمعنا خبرها" وكم هو صحيح أن أولئك الذين يراجعون نهايتهم الأخيرة، هم أقرب إلى الحكمة، وعلى استعداد لأن يتقبلوا الإعلان الذي يمنحه الله. هذه هي الحكمة النازلة من فوق، مبذولة للمتواضعين.


(ع23-27) المُعِلن.

"الله يفهم طريقها وهو عالم بطريقها. لأنه هو ينظر إلى أقاصي الأرض. تحت كل السماوات يرى. ليجعل للريح وزناً".

لنقف هنا ونتأمل. لقد كان بعد ذلك ببضع آلاف من السنين أن اكتشف الإنسان أن للريح وزناً. وهو ما يُعرف بالضغط الجوي ولكن هذه هي الحقيقة الطبيعية لم تدخل في نطاق الفلسفة ولا في حساب الفلاسفة وقتذاك فلم يكونوا يعرفون عنها شيئاً. ولكن ها هو أيوب يتحدث عن وزن الريح. بل الأكثر من ذلك والأعجب "يعاير المياه بمقياس". حتى إنه بالرغم من كل ما يحدث فإن البحار والمحيطات لا تتخطى حدودها أبداً. فهناك دورة الماء تسير في طريقها باستمرار تتصاعد مياه في شكل بخار بكميات هائلة وبتأثير الشمس عليها ترتفع أطنان كثيرة منها كل يوم ولكن هذا كله بحساب قياس معين موضوع في فكر الله.

هنا يتحول من الطبيعة إلى مصدرها، إلى أصلها من الخليقة إلى الله. هو- تعالى- يفهم طريق الحكمة، وهو وحده يقدر أن يعلنها للإنسان. ليس فقط بوصفه الخالق، بل كالمعلن في شخص ابنه الذي قال بفمه الكريم "أنا هو الطريق والحق والحياة" ومرة قال له المجد "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال... ليس أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" هو الذي عيناه اللتان تنظران كل شيء تخترقان السماوات، هو الذي يجعل للريح التي لا تُرى وزناً، ويمنح الماء معاييره المقررة، ويرسل المطر اللطيف، ومعه يعطي مذهباً (أي مسلكاً، طريقاً) للصواعق. هو رأي الحكمة، بل هو تلك الحكمة.

ولا يسعنا أن نفعل للذكرى، ذلك الفصل المجيد في (أمثال 8) الذي فيه يعلن أخلاقه وصفاته وقوته ذلك الأقنوم الإلهي، الحكمة الحقيقية. "لما ثبّت السماوات كنت هناك أنا. لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما أثبت السحب من فوق.. كنت عنده كمن نشأ معه، وكنت كل يوم لذته... ولذاتي مع بني آدم".


(ع28) الإعلان.

"هو ذا مخافة الرب هي الحكمة والحيدان عن الشر هو الفهم". وهذا هو عين الشعور الذي يستولي على النفس عند تجديدها فالإنسان المتجدد قد لا يعرف شيئاً أكثر من ذلك. فهو يرى كم كان غائصاً في الشر ولكنه الآن قد حاد عنه. والتطلع الحقيقي للمسيح كفيل بإحداث هذه النتيجة بعمل روح الله ومخافة الرب. ذلك ما يدوم ويثبت حتى عندما لا تكون النفوس مشغولة بشرها وتتكلم عن مخافة الرب والحيدان عن الشر.

ولكن ذلك ليس الإنجيل تماماً، وهو ليس العلم اليقيني بأن جميع شرنا قد دين في شخص المسيح على الصليب. وإن خطايانا قد محيت محواً كاملاً. وإننا قد صرنا أولاداً أبيض من الثلج بدم المسيح أمام الله. ذلك هو الإنجيل، كلمة الحق التي بعد قبولها يقبل الإنسان الروح القدس للتمتع بالحق والشهادة له. التمتع به أولاً ثم الشهادة له بعد ذلك. ليس التحدث عنه للآخرين أولاً. كلا. ليس هذا هو الشيء الأول كما قد يتصور البعض بعض الأحداث في الإيمان. ولكن الشيء الأول هو التمتع بالحق مع شكر الله وحمده في السجود له والتعبد هذا ما نأتي إليه أولاً. وهذا هو تأثير عمل روح الله الحقيقي في النفس. وهو يؤدي عادةً إلى نشاط كبير في الخدمة والكرازة للآخرين دون أن يجعل مشغولية المؤمن بحاجات الغير أكثر من مشغوليته بالنعمة والحق اللازمين لنفسه طوال الطريق.

ما هي إذن الحكمة الحقيقية؟ ما هي بحسب إعلان الله؟ واضح كل الوضوح إنها ليست مجرد الحق، بل هي الحق مطبقاً على الضمير، الحق الذي يضع الإنسان في مكانه، وبذلك يؤهله ويمكّنه من أن يتقبّل ما يقوله الله. هو ذا مخافة الرب هي الحكمة (الرب أدوناي، الحاكم المطلق والسيد). الحكمة التي معناها الانحناء في خضوع قدام ذاك الذي في حضرته يغطي السرافيم وجوههم، والذي صرخ أشعياء من حضرته قائلاً "ويل لي لأني هلكت". وهذا الخوف ليس هو مجرد فزع وارتعاب، بل توقير، وخضوع، وسجود. هي تشمل التوبة كما تتجلّى في أقوال اللص "أولاً أنت تخاف الله؟" فمعرفة الله هكذا تمهيد لمعرفة رحمته ونعمته. وفيما يتعلق بنا معرفة الإنجيل كاملة، والإعلان المسيحي الذي يصاحبه. هي ليست معرفة عن الله بل الإتيان إليه تعالى، وتعلم نعمته ومحبته. وهذا أكبر من مجرد المعرفة. هو مفتاحها، وهي الحياة الأبدية.

إن استطاعة أيوب للكلام هكذا تبين أنه كانت له هذه الحكمة بدرجة ما، ولذلك لم يكن يوضع في زمرة الأشرار. ولكن ما أضعف ما أدركه عن تلك الحقيقة السامية التي تحدّث عنها غير أنه بعد وقت قليل سوف تقوده مخافة الرب إلى "الحَيَدَان عن الشر". الحيدان عن قلب شرير، الحيدان عن ذاته. هذه هي الحكمة الحقيقية، له ولنا ونستطيع، ولنا هذه الحكمة أن نمسح الأرض، وننقب في أغوارها السحيقة، ونعبر البحار. ونحلّق في السموات العلى إنما لكي نجد الله ونشاهده في كل مكان.

هذا الطابع الأدبي هو الذي بالذات يميز كلمة الله دون سائر الكتابات الأخرى. فهو يتجه صوب ضمير الإنسان، وتنشئ فيه "مخافة الرب"- "خوف الرب" الذي هو "نقي، ثابت إلى الأبد".


معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح الثامن والعشرين

ص   ع      الكلمة                       معناها

28: 1       معدن        منبت الجواهر من ذهب وفضة.

28: 3       طرف        الطرف منتهى كل شيء.

28: 4       منجم         معدن.

28: 7       كاسر        العقاب (طائر).

28: 7       باشق        طائر من الطيور الكواسر موصوف بحدة البصر.

28: 8       أجراء        صغار الأسد أو الكلب.

28: 8       يعدو         ص 9: 25

28: 8       الزائر        الأسد.  

28: 10      سرب       جحر الوحوش. أو قناة تحت الأرض.

28: 14      الغمر       الماء الكثير.

28: 17      إبريز       الذهب الخالص الصافي.

28: 18      مرجان     صغار اللؤلؤ.

28: 18      اللآلئ      الجواهر الكريمة (أمثال 31: 10).

28: 25      يعاير        يكيل.

28: 26      رعد        هو الصوت الذي يعقب البرق والرب هو الذي يوجهه مجازياً يعتبر أنه

                             صوت الرب في غضبه.

28: 26      صواعق   نار تسقط من السماء في رعد شديديقال عنه نار الله (ص 1: 6) وستر الرعد (مزمور 81: 8) أي السحاب

                              الذي يستتر به الرب.  

  • عدد الزيارات: 18131