الأصحاح الرابع - عدد 16-17
فأخذت نعمي الولد ووضعته في حضنها وصارت له مربية. وسمته الجارات اسماً قائلات قد ولد ابن لنعمي ودعون اسمه عوبيد. هو أبو يسى أبي داود (ع 16،17).
هكذا تقبلت نعمي الولد كمن هو لها. وأخذته لنفسها. والجارات أيضاً اعترفن به كابن لنعمي، وأعطينه اسماً. لاحظ أن الجارات هن اللواتي يذكرن هنا وليست النساء عامة. فلقد ضاقت الحلقة وانجلت البصيرة بصورة أفضل. هكذا بالنسبة لنا من جهة الاستنارة وفهم طرق الرب وأعماله، بل حتى بالنسبة لحياتنا العملية، فهي تزداد عمقاً كلما زاد اهتمامنا بشعب الله وبالولي الذي أعطاه لنا.
وسمي الولد "عوبيد" ومعناه "عبد" أو "عابد". وواضح أن المعنيين مرتبطان معاً من الاسم إذا ربطناه بالله. فهذان هما واجب الإنسان من نحو الله، أن يخدمه وأن يعبده (تث 13:6، مت 1:4). ويا له من ثمر غال لبوعزنا إن كنا خداماً عابدين. فهو الذي ثقبت أذنه بالمثقب حتى يكون عبداً مؤبداً (خر 5:21 و6). وقد خدم وهو على الصليب، ومازال يخدم الآن، وسيظل يخدم إلى الأبد. لقد قال «أحب سيدي وامرأتي وأولادي. لا أخرج حراً»
إن الإنسان الطبيعي - كما سبق ورأينا - واجب عليه أن يخدم الله ويعبده، ولكننا نعلم أيضاً أنه لا يفعل ذلك، فواضح أنه «ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا» لذلك إن كنا عُبَّاداً خادمين فهذه علامة على أننا افتُدينا. «آه يا رب لأني عبدك. أنا عبدك ابن أمتك. حللت قيودي» (مز 16:116). هذا مبدأ صحيح في كل التدابير. فعندما كان إسرائيل في مصر خدموا فرعون ولم يخدموا الله (خر 23:2-25، 18:3، 1:5، 1:8 و8 و20 و27 و28...). لم يكن إسرائيل هناك رمزاً لغير المؤمنين، بل للمؤمنين الذين مازالوا في رومية 7. كانوا هم شعب الله، ولكنهم كانوا مجبرين على خدمة الخطية والعالم، حتى افتُدوا من مصر بقوة الدم وعلى أساس خروف الفصح. وعندئذ صاروا عابدين للرب وخداماً له (خر15)، وهذا ما لابد أن يكون في يوم قريب عندما يخلص إسرائيل من كل أعدائه (مز 26:22-31، 3:110). ولكن ينبغي أن الخدمة والعبادة الأكمل توجد حيث يكون عمل الفداء هو موضوع السبح الأسمى لأبناء الله المفديين الذين صاروا واحداً مع الفادي. «تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو 23:4 و24). نعم إن الآب يطلب ساجدين وخداماً له.
إذا كنا نريد أن نكون خداماً عابدين فيلزمنا أولاً أن نتحرر من قوة الخطية والموت، أما الذي مازال يتكل على الجسد فهو لا يستطيع أن يخدم الله. إن رومية 7 يصف لنا إنساناً مولوداً الولادة الجديدة، ولكنه لا يزال يخدم الخطية وليس الله (رو 15:7 و16 و19 و23 و24). ونفس تعبير الخدمة والعبادة يرد أيضاً في أعمال 42:7، 7:26، لوقا74:1، 37:2. ومن له القدرة على العبادة والسجود سوى من أُعتق من كل ما كان يذله ويربطه قبلاً، فمثل هذا قد صار الآن حراً حتى أنه يستطيع أن ينشغل بالفادي. فالسجود معناه المشغولية بأمجاد وامتيازات موضوع سجودنا. فهو تعبير عن التقدير والاحترام له في خشوع.
إن مثل هذا السجود لا وجود له في كنيسة روما الكاثوليكية، ولا في كنائس حركة الإصلاح. فكنيسة روما لها خدمة سجود، ولكنها ليست «بالروح والحق»، بل هي خدمة وسجود مادي كالذي كان لإسرائيل حسب الطبيعة، والذي أبطله الله لأنه لا يتوافق مع هذا المقام السامي الذي لأولئك الذين افتداهم المسيح. أما كنائس حركة الإصلاح فهي لا تدري شيئاً عن هذا السجود وهذه الخدمة إطلاقاً. فعندهم التبشير بالكلمة يسمى سجوداً وخدمة مقدسة، ولا يدركوا الفرق الشاسع بينهما. فقد يتكلم أحد إلى الكنيسة عن الله معلماً وواعظاً، ولكن هذا ليس سجوداً، بل السجود هو في الحديث إلى الآب بالمسيح والتعبد له لأجل كل ما عمله، معبرين عن الامتنان والتقدير له، والخشوع الذي يملأ قلوبنا عندما نتأمل ذلك الشخص العجيب وعمله في الفداء. فنحن نسجد ونتعبد في توافق مع إعلان الله الذي أعطاه عن ذاته وعن ربنا يسوع، بمعنى أنه هو المعطي الأعظم، وهو الآب لكل من قبلوا الرب يسوع مخلصاً وسيداً. هذا هو السجود بالحق. كذلك فنحن نسلك في توافق مع طبيعة الله، فسجودنا ليس بوسائل مادية طبيعية كما كان لإسرائيل قديماً، بل هو سجود روحي (عب 15:13، يو 21:4-24). وهذا هو السجود بالروح.
عندما أحيا الرب في نعمته الحقائق الثمينة عن الخلاص والعتق الكامل، وعندما أدركت هذا الحق قلوب قد اتضعت، حينئذ أُعيدت خدمة السجود إلى وضعها الأول، فابتدأ المؤمنون يجتمعون لأجل غرض واحد، وهو تقديم السجود والحمد والسبح للآب والابن تحت قيادة الروح القدس.
وفي السماء لن نتعلم ولن نوعظ، لن نكون في حاجة إلى من يعزينا أو يسندنا، لن نحتاج فيما بعد إلى تقويم أو بنيان، ولا إلى ازدياد في المعرفة والحكمة (1كو 3:13-12). لذلك لن نجتمع هناك لأي غرض من هذه. وبالرغم من أن اجتماعاتنا هنا لهذه الأغراض لها قيمتها الكبرى طالما نحن على الأرض، لكن تقديمنا السبح والشكر والتعبد لن ينقطع إطلاقاً، لا هنا ولا في السماء، بل هناك ستجتمع الكنيسة حول الحمل المذبوح فتقدم السجود الأكمل. ألا يرينا هذا أن السجود هو أسمى صور الخدمة التي يمكن أن نقدمها في اجتماعات الكنيسة؟ هذا هو فكر الرب من جهتنا. فهو سيظل يعلمنا ويعظنا طالما نحن في ضعف على هذه الأرض. ولكنه أيضاً يريد أن يوجدنا ونحن هنا على الأرض في ذات الحالة الموصوفة بأنها السماء في رؤيا 5، المكان الذي فيه ستجتمع الكنيسة حول الحمل المذبوح، هناك ستعطيه الكنيسة مع الآب البركة والكرامة من كل القلب. فهذا لمن يعرفونه هو اختبار مذاق السماء مقدماً، كما يقول المرنم!
إليك خرجوا سجودهم لك ذي خدمة لك |
|
من عالم الفنا يا سيد الملا ونحن في الدنيا |
وعندما نمارس هذه الخدمة روحياً لابد وأن يكون لها تأثيرها على حياتنا العملية. فقد كان عوبيد هو أبو يسى الذي معناه "هو الكائن"، أو "يهوه الكائن". فعندما ننشغل بالسجود للآب، وبشخص وعمل الرب المخلص، فإن هذه المشغولية ستتخلل كياننا وحياتنا كلها، وسيصبح واقعاً حياً في قلوبنا أننا نرى ونجد الآب والابن في كل أمورنا.
إن هذا السجود وهذه الخدمة يجب أن تدمغ حياتنا. وعندما يصبح هذا واقعاً حياً في قلوبنا أن نعرف الآب والابن - يهوه الكائن - في جماله العجيب وقوته ومحبته، سرمديته وعدم تغيره (عب 8:13)، فلاشك أن هذا سيرفعنا فوق ظروف الأرض والأوضاع المحيطة بنا. فلا تقتصر معرفتنا على عقولنا، بل تمتد إلى مشاعرنا وقلوبنا، ونوقن أنه لا شيء يمكن أن يحدث إلا بسماح من الآب، الذي أحصى جميع شعور رؤوسنا. هذه حقيقة إلى أن نعرفها لا نكون قد بدأنا الحديث عن مقاصد الرب يسوع في محبته.
أفهل نظن أن سجودنا وخدمتنا هي بلا قيمة عند الآب وعند ربنا يسوع؟ لقد كان يسى هو أبو داود، ومعناه "صديق" أو "محبوب". فبالسجود الحقيقي نصبح خلاناً للآب، ومحبوبين منه، مشابهين في هذا للرب الذي هو "ابن داود"، محبوب الآب (أف 1:6) الذي يدعى «ابن محبته» (كو 13:1)، الذي فيه وجد الآب كل سروره. عندئذ تكون لنا الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1يو 3:1). كم هذا عجيب وسامٍ - وهكذا يجب أن يكون تقديرنا - أن نؤتمن نحن على أفكار الآب والابن (يو 15:15).
- عدد الزيارات: 20590