الأصحاح العشرون
كانت التجارب التي صادفت داود تعده للمستقبل، وبنفس الطريقة يتعامل الله مع أولئك الذين يعدهم للمجد.
كان ليوناثان تأثير عظيم على أبيه، فإن شاول لم يكن يعمل أمراً كبيراً أو صغيراً إلا ويخبر به ابنه يوناثان (1 صم 20: 2) وكان يوناثان من أجل محبته لأبيه ومحبته لدود شديد الرغبة في عقد مصالحة بين من كان يدين له بالولاء كابن وكأحد رعاياه وبين داود الذي أحبه كنفسه، وكان في يقين أنه سوف يملك على إسرائيل، كان يوناثان على الأرجح يكبر داود بسنين كثيرة، لكن محبته النقية التي كانت تملأ صدره لم تعقها هذه السنون، لقد تحدث مع أبيه أكثر من مرة عن داود محاولاً التأثير لكي يحلف له بأن لا يقتله حتى أنه عندما عاد داود من نايوت تاركاً شاول تحت تأثير النبوة بين الأنبياء وسأل يوناثان "ماذا عملت وما هو إثمي وما هي خطيتي أمام أبيك حتى يطلب نفسي" ويضمر لي هذه العداوة المميتة مؤكداً له أنه كخطوة بينه وبين الموت. لم يتردد يوناثان في أن يؤكد له استعداده لإتمام ككل ما تشتهيه نفسه "مهما تقل نفسك أفعله لك" (ع 1- 4).
وفي المساء السابق لعيد رأس الشهر دعا شاول رؤساء مملكته إلى الوليمة. اتفق الصديقان أن هذه فرصة سانحة لمعرفة شعور شاول الحقيقي فاقترح داود أن يختلف عن الوليمة الملكية وعوضاً عن ذلك يزور بيت أبيه في بيت لحم، كان ميسوراً له أن يفعل ذلك ويعود في اليوم التالي وفي نفس الوقت يجس يوناثان نبض أبيه ويلاحظ لهجة كلامه ويعرف شعوره نحو داود إن كان للخير أو للشر.
أبرمت الخطة داخل جدران القصر ولكن كانت هناك بعض أسرار يتبادلانها بأكثر حرية، أحاديث يتجاذبانها ويسكبان فيها قلبيهما، عهد يقطعانه بين بعضهما، وسائل للتفاهم ترتب في الخفاء ولذلك وجدا من الأنسب أن يُتما الحديث في الخلاء حتى ر تشهد الدموع السخينة في البكاء إلا الغابات الجامدة التي لا قِبلَ لها على نقل أي حديث. كان هناك فعلاً شاهد آخر لأن يوناثان كان ممتلئاً بالتقوى وكان من عادته أن يعيش في حضرة إسرائيل، ولذلك فقد أشهد الله عليه عندما فتح قلب لصديقه وتوسل إليه أن يعامله بالحق والأمانة وأن لا ينسى حقوق الصداقة ولا يقطع معروفه عن بيته عندما يقطع الرب أعداء داود جميعاً عن وجه الأرض في المستقبل (ع 12- 15).
كان يوناثانى نبيلاً وقوياً في الثغرة التي كانت بين شاول وداود إذ لم يكن بالأمر الهيّن ما تعهد به يوناثان إذ كان مستعداً لثروة أبيه التي كان يتوقعها بعد احتجاجه الجريء من أجل صديقه المتغيب.
لاحظ شاول في اليوم التالي غياب داود وتساءل عن السبب وفي الحال قدّم يوناثان الإجابة السابق الاتفاق عليها وأضاف إلى ذلك أنه هو شخصياً أعطاه إذناً بذلك وكان هذا سبباً في انفجار بركان غضب شاول على يوناثان، إذ نراه يشير إشارة لاذعة لأم يوناثان، وهي زوجته، كسبب لتمرد ابنه، ويوجه تعبيرات قصد بها أن يُفرِغ في قلب ابنه نفس السم الذي كان يملأ قلبه هو شخصياً. ولكن يوناثان قام عن المائدة بحمو غضب.
ولا شك أنه مما يستحق المدح ما سجله الروح القدس عن مشاعره أمام توبيخ شاول له، فهو لم يحزن بسبب ما أصابه شخصياً لكنه "اغتم على داود لأن أباه قد أخزاه" (1 صم 20: 34). وهذه هي المشاعر التي تسود على أولاد الله، فأي واحد منهم مهما كانت حالته يحب الرب يسوع من صميم قلبه، ويحبه أكثر من نفسه حتى لو وصل الأمر إلى الاضطهاد.
وعلم يوناثان أن أباه عازم على قتل داود ورمى السهم كما لو كان متفقاً عليه مع داود وجاوز السهم الغلام وفُهم منه الخطر المحدق بداود وسقط داود إلى الأرض على وجهه وسجد ثلاث مرات وقبّل كل منهما صاحبه وبكى كل منهما على صاحبه حتى زاد داود. لم يكن هناك ما يدعو يوناثان أن يوضح الأمر فإن داود علم أن الرب قد أطلقه. وكان قول يوناثان "السهم دونك فصاعداً" يعني أنه قد أتم الواجب ودافع عن قضية داود ولكن عبثاً فإن انطلاق السهام يدل على أنه يجب أن ينطلق حيثما شاء.
كان الغلام يعتقد أن الأمير يلهو فهو لم يكن في استطاعته أن يتكهن بغرض سيده وبالأولى لم يكن في استطاعته أن يدرك أن كل سهم يطير إنما هو مأخوذ بترتيب الله وأنه لا مجال للصدفة في حياة المؤمن. إن العناية الإلهية تتدخل حتى في أتفه الأشياء، ولنتيقن أن وراء كل سهم يطير قصداً سامياً تسنده محبة أبينا السماوي.
وأخيراً قال يوناثان لداود "اذهب بسلام لأننا كلينا قد حلفنا باسم الرب قائلين الرب يكون بيني وبينك وبين نسلي ونسلك إلى الأبد".
تصرف يوناثان بالإيمان والمحبة لأنه عرف يقيناً أن أباه مرفوض من المملكة بحكم الله، وأن داود مزمع أن يصير ملكاً يوماً ما. فقبل ذلك من الله غير مفتكر في مجد ذاته.
وهكذا يفترق الصديقان داود ويوناثان، ويمثل يوناثان أولئك الذين يحبون داود ولكنهم يلتصقون بشاول، الذين يحبون المسيح لكنهم يخشون الاعتراف به واتباعه من كل القلب، ولذلك فلا بد أن يحين الوقت ليفترق هذا عن ذاك. وقد مضى يوناثان إلى حين الكرامة في هذه الحياة لكن من هناك إلى الموت أخيراً فوق جبل جلبوع أما داود فقد مضى إلى الآلام والرفض ثم إلى اعتلاء عرش الملك، وهذا هو نفسه طريقنا ونحن نتبع المسيح "إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه".
- عدد الزيارات: 1906