الأصحاح الرابع والعشرون
نجد بعد ذلك داود في "عين جدي" وهي الينابيع التي تشرب منها الجداء ويوجد بالقرب من عين جدي "صخور الوعول" أي مكان تجمع الوعول وهي الجداء الكبيرة. لأن البرية بتلالها وصخورها قاسية فقد رتب وجود هذه الصخور لكي تكون مدرسة لتدريب وتجديد قوة وخطوات الوعل البري، إنه يحصل على القوة من جراء تدريبه في القفز فوق هذه الصخور، وهي رمز لتدريب إيمان المؤمنين بالصعوبات التي يسمح الرب بوجودها أمام المؤمنين. إنها تدريب الإيمان لكي نقدم في إيماننا فضيلة. بينما تشير ينابيع المياه إلى التعزيات المنعشة التي كانت تأتي لداود من الرب فجعلته يتغنى وسط أقسى الظروف. وربما في هذه الظروف الصعبة سكب داود قلبه للرب كما هو مدون في مزمور 63 (مزمور لداود لما كان في برية يهوذا).
ذهب شاول ورجاله يفتش على داود فوق صخور الوعول وجاء إلى "صير الغنم" التي في الطريق وهي حوائط عالية من الحجارة يبنيها الرعاة لحماية الغنم من الوحوش المفترسة، وكانت توجد دائماً أمام الكهوف، وإلى أحد هذه الكهوف دخل شاول ورجاله لكي يغطي رجليه أي يأخذ قسطاً من الراحة بالنوم. أما مغابن الكهف التي كان فيها داود فهي الأماكن الداخلية المختفية من الكهف. ولا شك أن هذا الكهف كان مظلماً ولا يستطيع الداخل إليه أن يرى شيئاً أما من أقام داخله طويلاً فإنه يستطيع أن يرى الداخل إليه بوضوح. لهذا لم يكن في استطاعة شاول أن يرى أحداً بداخله. أما داود ورجاله فقد عرفوه ورصدوا كل خطواته، اغتبط رجال داود بدخوله وظنوا أن الفرصة قد حانت لداود ليريح جماعته من تشردهم ومتاعبهم بضربة واحدة برمحه، ولعلهم همسوا في أذنيه بذلك وأن الله قد أتى بشاول لهذا الغرض، ولكن كبح داود جماحهم وربما قد بذل جهداً كبيراً أيضاً ليكبح جماح نفسه أيضاً واكتفى بالزحف بقرب الملك وقطع طرف جبته لكي يبرهن له فيما بعد أنه كان في قبضته تماماً، ولكنه ندم فيما بعد حتى على هذا العمل التافه. وحين احتج رجال داود عليه لعدم قتله شاول قال لهم "حاشا لي من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي بمسيح الرب فأمد يدي إليه لأنه مسيح الرب هو". كان قرار داود بعدم قتل شاول مؤسساً على الإيمان، قرار الرجل الذي كان في مقاصد الله أن يكون ملكاً على شعبه وأظهر داود بذلك أنه كان على مستوى فكر إلهه، ونرى في داود الضمير المدرب الحساس الذي بكته حين قطع طرف جبة شاول.
وكان قرار داود بعد قتل شاول سبباً في إذابة كبرياء شاول وكان من المنتظر أن يلين قلبه القاسي ولكنه ظل على قساوته بسبب طول السنين التي مارس فيها القساوة.
أظهر داود في هذا أنه يعتمد كلياً على الرب، كان ينتظر الرب ووعده له وأنه في الوقت المعين لا بد أن يُسرع في إتمام مقاصده ونرى لغته تعبر عما كان في قلبه "يقضي الرب بيني وبينك وينتقم لي الرب منك ولكن يدي لا تكون عليك" (ع 12) كما نراه يذكر مثلاً قاله القدماء "من الأشرار يخرج الشر" إذ لا نجد هذا المثل في النص الكتابي لشريعة موسى لكن نجد شبيهاً له في سفر الأعمال (ص 6: 12، 13: 5، 15: 8، 21: 10) وكان في كلام داود هذا تحذير لكي لا يتصرف شاول كالأشرار.
كان هذا هو درس زيف الذي تعلمه داود، درساً بسيطاً لكنه عظيم، ولكن هذا الدرس سبباً في انهيار شاول تماماً فبكى واعترف أنه أخطأ وأن داود لا بد أن يملك على الشعب طالباً من داود قسماً أن لا يقطع نسله من بعده.
حقاً ما أعجب مقاصد الرب فيها كل الخير لنا وعلينا أن ننتظره بصبر.
- عدد الزيارات: 1726