Skip to main content

الأصحاح السابع والعشرون

نجد داود مرة أخرى بعد انتصاره على نفسه وإظهار صلاح الله من نحوه وقد ضعف إيمانه، ولم يعد يرى شيئاً أمامه سوى أنه سوف يهلك يوماً بيد شاول. ولا شك أن لقاء داود الأخير مع شاول قد أثر عليه تأثيراً كبيراً، لقد وصف بكلمات مؤثرة أمام شاول حالته كحجل مطارد في الجبال، وقارن بين تفاهته كبرغوث وبين قوة الملك وموارده. وقد جعله هذا يشعر بالخطر المحدق به بصورة أكبر من ذي قبل، واعتقد أن أعداءه سيمسكون به في النهاية وينقضون عليه. لقد نبر داود على المخاطر الناتجة عن الاستسلام للأفكار المقلقة بكلمات كانت سبب بركة لكثيرين منذ ذلك الحين ولكنه فشل في أن يحقق هذا لنفسه في تلك اللحظة، ففي مزمور 139 الذي يُحضر النفس في كل حركاتها الداخلية تحت نظر الرب نرى داود يظهر رغبة حارة في التخلص من كل يُثبّط عزمه ويُضعف قلبه ويقوده إلى التحول عن الله "اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَاهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً" (مز 139: 23، 24) لكن نراه هنا ينسى مراحم الله واختباراته السابقة وخلاصه المتكرر من كل الضيقات، كما نسى أفراحه وشهاداته، وعندئذ خطط لنفسه، لكن ألا توجد عوامل دفعته إلى هذا التفكير، كان معه زوجتان أخينوعم وأبيجايل، وكان معه أيضاً ستمائة رجل وربما كان الكثيرون منهم متزوجين وكان عليه إعالتهم وبسبب وجود هؤلاء النساء بأولادهن كان من العسير عليه أن يكون دائم الهجرة بسبب عدم قدرتهم على تحمل مشقات الانتقال الكثيرة.

كان من عادة داود في المناسبات الأخرى استدعاء الكاهن بالأفود ليسأل الرب ولكن مع هذا التفكير لم يعمل ذلك، تصرف كما تصرف مع نابال تحت التأثير المفاجئ لعاطفته وهي تحت تأثير الخوف. لقد نظر إلى الظروف، ولعله أصغى إلى مشورة الرجال الذين التفوا من حوله معجبين بشجاعته ولكنهم لم يبالوا بينابيع حياته الأعمق في الله وإيمانه وهذا يرينا أننا لا ينبغي أن نتخذ أي قرار ونحن تحت تأثير الخوف والانزعاج أو نقع تحت تأثير الآخرين علينا، بل علينا أن نركع على ركبنا ونرجع إلى الله ونقول له يا رب ماذا تريد أن نفعل. ليت داود تذكر كلام أبيجايل أنه سوف يرمي نفس أعدائه كما من وسط كفة المقلاع وأن الرب سوف يصنع له بيتاً أميناً وأنه سوف يقيمه رئيساً على إسرائيل. وتأيدت هذه المواعيد بواسطة صموئيل ويوناثان وشاول نفسه، وأُعلن له عند مسحه بالزيت أنه قد صار مسيح الله وكان الله مستعداً لو سأله داود أن يمنحه في محبته تعزيات وتعضيداً.

ولا شك أن التفكير في أن يفلت إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول منه فلا يفتش عليه بعد في جميع تخوم إسرائيل. قد بعث السرور في نفوس الكثيرين من أتباعه غير المؤمنين كما أن كل الأتقياء من أتباعه قد أحسوا بأن هذا الكلام ينم عن روح اليأس ويتعارض مع نصائحه التي طالما رددها لانتظار الله "كل منتظريك لا يخزوا، ليخزَ الغادرون بلا سبب" (مز 25: 2).

كانت فلسطين في ذلك الوقت ممتلئة بهياكل الأصنام وكهنة الأوثان (2 صم 5: 21)، ما كان في إمكان داود والذين معه أن يرنموا لأنهم أصبحوا في أرض غريبة، ما كان في استطاعتهم تقديم ذبائح، وكان اختلاطهم بسكان الأرض الوثنيين عتيداً أن يحدث تأثيره السيئ فيهم.

ذهب داود إلى جت التي فيها سبق أن تظاهر بالجنون خوفاً من ملك جت وهكذا نجده يسلم نفسه إلى عدم الإيمان وكانت كل خطوة من خطوات عدم الإيمان تقوده إلى خطوة أخرى أردأ إذ ابتدأ يمارس الكذب على ملك جت. ويُذكر أنه كان يهاجم جنوبي يهوذا، وهذا يرينا كيف أن القلب حين لا يكون تحت اللمسة الإلهية فهو يحارب الشرور من أجل أغراض ذاتية، وكانت الخطوة الأردأ التي مارسها داود هي القسوة لكي لا يفتضح أمره إذ كان يقتل في حربه الكل، لم يستبق رجلاً أو إمرأة أو طفلاً حتى يأتي إلى جت، كما أنه كان يعطي ملك جت من غنائمه أي يُثرِى أعداء الرب، ولم يكتف داود بهذا بل سار إلى خطوة أردأ إذ أصبح حارساً شخصياً لأخيش ملك جت وبذلك أصبح على استعداد أن يحارب إسرائيل، وهي حالة تعيسة جداً.

ولا شك أن الفلسطينيين كانوا يراقبون داود ورجاله، وكان من المتعذر أن يحتفظوا بحريتهم واستقلالهم، ولذلك طلب داود أن يخصص له مدينة صغيرة وأذن له ملك جت أن يقيم في صقلغ وهي مدينة في الجنوب كانت من نصيب يهوذا أصلاً ثم انتقلت إلى نصيب شمعون وأخيراً امتلكها الفلسطينيون ولكنهم لم يسكنوها (يش 15: 31، 19: 5 و1 أخ 4: 30) ومعنى الاسم صقلغ "ضغط الموجه"، وهكذا أصبح داود تحت ضغط الظروف. وإذ وُجد هؤلاء الرجال المطاردون في هذه المدينة الصغيرة شعروا بشيء من الراحة واستمروا في راحتهم هذه نحو ستة عشر شهراً، وأخبر شاول أن داود قد هرب إلى جت فلم يعد أيضاً يفتش عليه.

وكان لا بد لداود أن يعول نفسه وأتباعه ولم يكن أمامه سوى الإغارة على الأرض الجنوبية التي كانت شعوبها متحالفة مع الفلسطينيين ومن ألذ أعداء شعبه، وبين هذه كانت توجد قبائل الجشوريين والجرزيين والعمالقة، وكلها قبائل بدوية تعيش على السلب والنهب.

أخذ داود مصيره بيده وكان لجوؤه إلى ملك جت فيه البرهان أنه أصبح مطروداً ومنفياً من شعبه، وفي هذا إهانة لمحبة الرب وعنايته. وفي حقيقة الأمر أن واحداً من أولاد الله لا يطرد بعيداً عن الميراث بدون سبب إذ حين يسلم أمره لله ويسلك بالإيمان فإن الرب يحفظه في أرض ميراثه.

 

  • عدد الزيارات: 1551