الأصحاح التاسع عشر
نرى الآن شاول ينحدر من رديء إلى أردأ. حاول في البداءة أن يطعن داود بالرمح، كما حاول أن يجعله يُقتل بواسطة الفلسطينيين وها هو يطلب علناً من ابنه وعبيده أن يقتلوا داود، لكن يوناثان المحب حذّر داود وخبأه كما أقنع والده بعدم قتله، وأقسم شاول قسماً أن داود لا يُقتل، وهكذا نرى يوناثان صانع سلام من المكتوب عنهم "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ" (مت 5: 9).
استمر داود في انتصاراته، وأثارت هذه الانتصارات حسد شاول ولذلك حاول أن يقتله مرة أخرى بالرمح الذي استقر في الحائط. وكان هذا بتأثير الروح الرديء الذي بغته وحدث هذا ثلاث مرات، وكان بسماح من الله (18: 10، 11 و19: 9، 10).
ونجا داود إلى بيته حيث توجد زوجته ميكال حيث حذّرته من الخطر اُلمحدق به، وأنزلته من الكوة، وكان الذين يريدون قتله يراقبون البيت، ويعطينا مزمور 59 نوراً جميلاً لهذا الوقت من تاريخ داود. ومن عنوان المزمور نعرف أن داود نظم هذا المزمور عندما اكتشف مكيدة شاول والرسل الذين أرسلهم ليراقبوا البيت. كانت تلك اللحظات مفعمة بالخطر لكن لم يلفت من فم داود أي تعبير عن الاضطراب أو الانزعاج. بل نطق ببعض العبارات التي فيها يطلب من الله أن يتدخل بالدينونة على الأعداء ليس لأنهم يقاومونه هو شخصياً بل لأنهم يرفضون مشورة الله من جهة الملك الحقيقي. وبينما كان رسل شاول يدورون حول البيت لاقتناص فريستهم نراه بدلاً من الإحساس بالخوف يتوقع بكل ثقة هزيمتهم وخيبتهم. وفي تعبيره عن فرحه بقوة الرب ورحمته يقول "أما أنا فأغني بقوتك وأرنم بالغداة برحمتك.. يا قوتي لك أرنم لأن الله ملجأي إله رحمتي"، كما أننا نجد في محاولات قتل داود مزاً جميلاً لما كان عتيداً أن يحدث لربنا يسوع المسيح له المجد.
ونزول داود من الكوة هو نفس الأمر الذي حدث للرسول بولس في دمشق (أع 9: 20- 25)، لم يكن من الحكمة على كليهما أن يبقيا في البيت لأنه مكتوب "لا تجرّب الرب إلهك".
وكانت ميكال زوجة داود تمتلك ترافيم وهي من متعلقات الوثنية وكان يعبدها لوثنيون، وكان الرب يمنع وجودها ولكنها كانت تستعمل سراً، وضعت ميكال الترافيم في فراش داود ووضعت لبدة المعزى تحت رأيه لكي يبدو الشعر الطويل المتهدل وكأنه رأس داود، وغطته وقالت إنه مريض، وحين اكتُشفت الخدعة قالت إن داود هددها بالقتل، وتسجيل المكتوب لهذه الأكاذيب دليل على صحة الكتاب المقدس لأنه يقول الحق ولا يخفي شيئاً منه
كانت الخطة التي وضعتها ميكال هدفها كسب الوقت حتى يكون داود قد هرب لحياته لكن لجوءها للكذب لا يعفيها من الدينونة ويدل على أنها لم يكن لها روح التقوى التي ظهرت في يوناثان وهو يخاطب أباه بخصوص داود.
هرب داود إلى صموئيل الذي كان له مدرسة للأنبياء في نايوت الرامة، وكانت مدارس الأنبياء المختبرون لتعطي الذين يدعوهم الرب للنبوة تدريباً يزيد نموهم الروحي وأساس التدريب دراسة الناموس.
من السهل أن نستنتج الدافع لهروب داود إلى صموئيل في الرامة، فإنه في يوم الشدة والضيق تصبح الشركة مع شخص له نفس الروح ذات حلاوة مضاعفة.
كانت مهمة صموئيل الأساسية قد انتهت بمسح شاول رجل اختيار الشعب، وداود الرجل الذي بحسب قلب الله وبذلك قد انتهت خدمته العلنية، ومن ثم كان يحبا في صمت هادئ وتدريب للأنبياء الصغار في اعتزال مدينة الرامة الهادئ غير أن إنساناً فرضت عليه عيشة العزلة والهدوء، لم يكف بالضرورة أن يكون ذا قيمة لإخوته، ذلك أن خدمة الشفاعة مفتوح بابها على مصراعيه لكل من يرغب، وهكذا كرّس النبي صموئيل حياته إلى نهايتها في هذه الخدمة "حاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم".
ألا أيها الأخوة الشيوخ، الإخوة العحزة، الإخوة المسجونون تشجعوا، فلئن عجزتم دون الركض في عمل الرب تستطيعون رغم ذلك أن تخدموا شعب الله عند عرش النعمة، وهوذا بولس في سجنه الروماني لم يكف عن الشكر من أجل إخوته في أفسس ذاكراً إياهم في صلواته، ولإخوته في فيلبي- في كل أدعيته مقدماً الطلبة لأجل جميعهم بفرح، وكذلك كان يصلي بانتظام للمؤمنين في كولوسي وفي أماكن أخرى ممن يعرفهم ومن لم يعرفهم، ولما حُزم أبفراس من حريته جاهد في الصلوات من أجل إخوته لكي تثبتوا كاملين وممتلئين في كل مشيئة الله (كو 4: 12).
عاش صموئيل أيضاً ليأوي إليه داود من اضطهاد عدوه الخطير ولذلك نقرأ "فهرب داود ونجا وجاء إلى صموئيل في الرامة وأخبره بكل ما عمل به شاول". ولكن ما عساه يستطيع أن يفعله رجل عجوز لداود في محبته؟ بادر شاول وحرّك قواته. فإنه كن في ذلك الوقت تحت سيطرة إبليس بحيث لم يعد بين جوانحه ذلك الاحترام لصموئيل ومن ثم أراد أن يهاجم بيته وهناك يمزق داود. لكن قوة الله كانت مع عبده الشيخ، الأمر الذي تحققه شاول بطريقة عجيبة، وكان قد أرسل ثلاثة فرق من الرسل، أرسلهم مسلحين بدون شك، للقبض على داود، ولكن بعد مجيئهم وإذ كانوا على مدى البصر من صموئيل وجماعة أنبيائه المتتلمذين حلّت عليهم قوة الله حتى أنهم تنبأوا بين الأنبياء، وهذا يذكرنا بأخزيا في ثورته على إيليا (2 مل 1) فهز بدوره أرسل إلى النبي ثلاث فرق. لكن رئيس الخمسين الثالث تواضع أمام قوة الله التي كان يستخدمها إيليا وتوسل من أجل حياته. وفي أيام شاول كانت الأمور إلى أردأ لأن فرقته كانت مصرة على إتمام عمل سيدها الشرير نظير الفرقتين الأولين. ومن الخطير أن يذهب شاول نفسه، واثقاً أن سيكون من القوة بحيث يستطيع أن يقاوم التأثير المقدس الذي انحنى تحته رسله أجمعون، قرر أن يحارب الله، يا له من مخدوع أعمى! ضلل به الشيطان. والواقع أن هذا الرجل التاعس صورة ناطقة لملك الأيام الأخيرة (د 11: 36) الذي يملك في أورشليم في فترة الضيقة العظيمة.
هوذا الملك الغاضب يجيء إلى "البئر العظيمة التي عند سيخو" باحثاً عن صموئيل وداود، هل يريد أن يقتل النبي وصهره معاً؟ هذا ليس واضحاً، لكن المحقق أنه أصبح على مدى الرؤية من صموئيل وداود ونية القتل في قلبه وعندئذ باغتته روح الله الشديدة وظل مطروحاً على الأرض ذلك النهار كله وكل الليل عاجزاً عن إتمام ما أراد، وعرياناً من ثيابه الخارجية. وبحق قال المشاهدون- ربما كان في سخرية وتهكم وهم على دراية بأخلاق هذا الرجل- "أشاول أيضاً من الأنبياء". إن للروح أعمال قوة متنوعة يمكن أن تكون في الإنسان بدون أن يكون مولوداً من الله. وإذ ذاك يزداد شراً ولا يمكن أن يتوب لأن دينونته صارت مؤكدة. (انظر عب 6: 4- 8).
"كيف سقط الجبابرة"- في الرامة نشهد الملك مطروحاً أمام قوة الله، وفي عين دور ساقطاً على الأرض في بيت عرافة، وعلى جبل جلبوع مطروحاً جثة هامدة في ساحة الحرب، ما أتعسها عاقبة لحياة شقية، حياة بدأت تاريخها وفي متناولها كل امتياز يمكن لله الطيب أن يمنحه.
إن الاختيار العجيب الذي نتصوره الآن في نايوت الرامة ينطلق منه صوت عالٍ لشاول وداود، فقد تيقن منه داود أنه وإن كانت أمامه في الطريق سنوات من الهروب أمام عدوه، فلن تستطيع قوة المخلوق أن تؤذيه لأن الرب كان معه، وأما شاول قد كان في إمكانه أن يعود إلى داره مقنعاً بعدم جدوى مقاومته الله، لكن الجسد، من أسف، لن يتعلم الدرس الإلهي، لكن شاولاً آخر أطاع صوت الرب محدثاً إياه من السماء ولبركته الأبدية (أع 22) طوبى له، شاول الطرسوسي.
لقد وقعت قرعتنا في يوم حضور الروح القدس على الأرض بصفة شخصية والكنيسة مسكنه، ومن هناك يواصل عمله الكريم لبركة الناس، على أن قوة الشيطان ضد عمل الروح القدس، لكننا لا نخاف شيئاً فإن الذي حطّم شاول العهد القديم والذي كسرّ شاول العهد الجديد وغيره لا يزال قادراً أن يتصدى لكل شيء من أشكال العداء الشيطاني لعمل الله! إن إلهنا بكل يقين لا يعرف الهزيمة!
- عدد الزيارات: 2505