الأصحاح الحادي والعشرون
نرى هنا بداية تيهان داود وهو منفي، وفي مدة نفيه كتب عدداً من المزامير النبوية التي وإن كانت تطابق اختباره إلى حد ما، إلا أن انطباقها الكامل هو على الملك الحقيقي ربنا يسوع المسيح له المجد. نُذكر آلامه والأمجاد التي بعدها. كما ويمكن تطبيقها أيضاً على البقية التقية في آلامها التي سوف تؤمن بالمسيح بعد اختطاف الكنيسة.
وفي هذا نرى أن السير مع الله ليس أمراً هيناً، فما أضيق الباب وما أكرب الطريق. والهواء حول قمم الجبال حيث الشركة الإلهية يندر وجوده ويصعب استنشاقه حيث تعيا الأقدام البشرية بعد قليل من السير معه. ويميل العيان إلى التوقف عن متابعة السير معه، هذا ما اختبره داود بعد فترة أليمة مرت عليه، وكانت العلامة على ضعفه ما قاله ليوناثان أنه كخطوة بينه وبين الموت (1 صم 20: 3)، كان إيمانه بدأ بضعف لأن الله سبق أن أكد له تأكيداً لا يدعو سبيلاً للشك بأنه لا بد أن يجلس على عرش الملك، نظر إلى الله في ظلمة الظروف الحالكة التي كانت تنذر بالخطر، نظر إليه بالعين المجردة وليس في ضوء معونة القدير، كان رمح شاول يلاشى من عقله ذكريات الساعة التي اقتبل فيها مسحة الدهن من يد صموئيل، ومن هذا نتعلم أنه ليس كافياً أن ننال هذه المسحة بل ينبغي أن نزيل كل العوائق التي تعمل على عدم الامتلاء بالروح القدس إذ عندما تمتلئ بالروح تصبح تصرفاتنا وأقوالنا تحت تصرف الروح (أف 5)، (1 يو 3: 24).
أما الخطوة الثانية فإنه التجأ إلى الخداع والمواربة والأمر الذي لا يليق ولا يتفق مع صديقه الأعظم به وإلهه، إن الله نور وعلى الذين يريدون أن يسلكوا معه أن يخلعوا أعمال الظلمة ويلبسوا أسلحة النور ويسلكوا كأبناء نهار.
ويظهر صدق كلمة الله في عدم إخفاء الأخطاء التي انزلق إليها أشخاص مشهود لهم بالتقوى مثل داود. وهنا نرى رجل الإيمان يسقط في خطية عدم الإيمان في قدرة الله أن يحفظه، ولجأ إلى الخداع لينجي نفسه. لكن ما أبعد الفرق بين داود وذاك الذي عُرف عنه أنه ابن داود حسب الجسد "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ. الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً" (1 بط 2: 22، 23).
ونرى رداءة تصرف داود في مساء اليوم السابق للسبت ووصل داود ومعه جماعة من أتباعه إلى مدينة نوب الصغيرة الواقعة بين الجبال والتي تبعد عن جبعة نحو خمسة أميال إلى الجنوب وهي في موقع منعزل بعيد عن الطرق التجارية يتناسب مع أخلاق سكانه الذين كانوا يهتمون بخدمة الأقداس، كان يسكن هذه المدينة ستة وثمانون شخصاً ممن يلبسون ملابس الكهنة أفوداً من كتان ويعيشون حياة هادئة مع زوجاتهم وأولادهم ولهم كفايتهم من ثيرانهم وغنمهم، ولم يكن في موقعهم ما يدفع أضعف الجنود على غزوهم، ولم تكن لديهم أسلحه سوى سيف جليات الذي كان قد أودع هناك منذ بضع سنوات كعلامة لنصرة بطل إسرائيل داود، ولعل الاجتماعات العظيمة السنوية التي كانت تقام في تلك المدينة قد أبطلت، ولم يعد يتردد عليها سوى الزائرون بين حين وحين كدواغ الأدومي والذين يأتون لإيفاء نذورهم أو ليتطهروا من نجاساتهم حسب وصايا الناموس، من هنا يتضح أنه لم يكن هناك استعداد لإطعام عدد كبير لأن نصيب الكهنة الضئيل كان بالكاد يكفيهم، وإذا ما نزل عليهم ضيفان أو ثلاثة شعروا بشيء من الضيق.
حين تقدم داود إلى أخيمالك الكاهن اضطربت نفس الكاهن وكان لا بد لداود أن يجيب على الأسئلة التي وجهها إليه لكي يزيل من نفسه الشكوك، وهذا ما حاول داود أن يفعله إذ قد حديثه الذي يتضمن أن سيده الملك قد أوفده في مأمورية عاجلة، وأوهم أخيمالك أن مأموريته هذه كلفته السير ثلاثة أيام هو ومن معه وأنها سرية لا يصلح أن يبوح بها لأحد، وأن هناك حامية كبيرة تنتظر عن بعد، وبينما هو يفعل ذلك هزت قلبه رعشة عنيفة إذ رأى وجد دواغ الأدومي رئيس رعاة شاول لأنه أدرك أن تفاصيل الرواية سوف تنقل إلى شاول، وملأ الخوف قلبه من جهة أخيمالك ومن نحو نفسه، وحالما انتهت خدمة السبت ترك المكان فوراً.
ومعنى اسم دواغ "المخيف" وهو أدومي المولد وتجري في دمائه العداوة القديمة لشعب إسرائيل. وربما يكون قد ذهب إلى الكاهن ليتطهر من بعض الدنس أو ليفي نذراً. وقد قيل عنه إنه كان محصوراً أمام الرب، فقد كان وجوده هناك رغماً عنه. وكان من الأنسب له أن يوجد في مكان آخر غير هذا المكان. وقد خان دواغ داود وأخيمالك. وكثيراً ما يوجد في مقادس الله ذئاب في صورة حملان.
كان في نوب أخيمالك بن أخيطوب حفيد عالي الكاهن ومعنى اسمه أخي ملك، ويشير الرب يسوع له المجد في مرقس 2 إلى تلك الحادثة ويذكر أن داود "دخل بيت الله في أيام أبياثار رئيس الكهنة.." ومن ذلك نعلم أن أبياثار كان رئيس الكهنة في ذلك الوقت.
أعطى أخيمالك خبز التقدمة لداود وكان خبز التقدمة أي خبز الوجود يوضح أمام الرب ثم يرفع كل سبت ليوضع خبز طازج بدله. ولم يحل أكله إلا للكهنة فقط (خر 25: 30 ولا 24: 5- 9 ومت 12: 3، 4).
وأشار الرب يسوع له المجد إلى ذلك العمل حين احتج الفريسيون على أكل التلاميذ لسنابل القمح حين جاعوا وذلك لأن السبت جعل للإنسان وراحته وليس الإنسان للسبت.
وحفظ حياة مسيح الرب أهم من المحافظة على تلك الطقوس التي ألغيت عملياً بسبب سوء حالة إسرائيل. فأصاب داود بما عمل، وصادق الرب على عمله غير أن الوحي لم يذكر كلام داود غير الصحيح لكي يصادق عليه.
كما سأل أخيمالك داود إذا كان هو ورجاله طاهرين حتى يستطيعوا أن يأكلوا من خبز التقدمة (لا 15: 16) فأجاب داود أنهم طاهرين ولذلك أعطاه أخيمالك هذا الخبز.
لقد أبطل الرب يسوع هذا الطقس الذي كان لدى اليهود ليعطي الشعب فرصة الشركة مع شخصه لأن خبز التقدمة يتكلم عن الخبز الحقيقي- الرب يسوع له المجد، ويعطي الرب لنا هذا الخبز لتعضيدنا في الطريق.
لم يكن مع داود سيف أو سلاح فطلب من أخيمالك رمحاً أو سيفاً فأعطاه سيف جليات الفلسطيني. وفي ذلك نرى أن ما نكرّسه لله لا نفقده، وما نقدمه له لن نخسره. فسيف جليات الذي قدمه داود للرب الذي أعطاه الانتصار على العدو قد عاد إليه الآن إذ كان في أشد الاحتياج إليه. وكان وجود هذا السيف مع داود مشجعاً لإيمانه في أقسى الظروف. فكلما نظر إليه تذكر كيف أعطاه الرب القوة على ذلك الفلسطيني الذي عيّر صفوف الله الحي. إن معاملات الرب السابقة معنا هي خير مشجع لنا في الحاضر.
وركض داود بكل قوته في الاتجاه الجنوبي إلى أن عبر وادي البطم الذي حاز فيه النصرة على جليات. وكانت على بعد عشرة أميال من هذا الوادي تقع مدينة الفلسطينيين المتكبرة "جت" التي أرسلت في ذلك الوقت بطلها المتعجرف جليات، ولذلك عزم داود على دخول جت وكان خطر وجوده في جت أقل من الخطر الذي يترتب على البقاء في أرض إسرائيل. ظن أن الفلسطينيين لا يزالون ينظرون إليه كغلام يرعى الغنم ولكن مجرد دخوله جت تم في الحال معرفة شخصيته، وابتدأ يعلو وجهه الخوف والفزع وتذكر عبيد أخيش ملك جت الأغنية التي ترنمت بها النساء اللاعبات "قتل شاول ألوفه وداود ربواته" فهو إذن الذي تلطخت يداه بدماء الفلسطينيين. أدرك داود الخطر المحدق به وأراد أن ينجي نفسه بالانحدار إلى الغش والكذب حيث تظاهر بالجنون وصار يخربش على مصاريع الباب ويسل ريقه، ولا شك أن هذا التصرف كان مزرياً له. كان ينبغي أن يكون له الإيمان أن الله سوف ينجيه بدون هذا التصرف.
وحين نقرأ مزمور 56 مزمور الحمامة البكماء حين نرى كلمات المزمور أنه وراء الكثير من العبارات والأشياء المحتقرى والمزدري بها روح تشتاق حنيناً إلى الله والثقة فيه والاتكال عليه. كما نرى ما يعبر عن الفرح الذي يملأ قلب المرنم إذ يذكر ما سوف يتمتع به عندما يسير أمام الله في نور الأحياء، كان يعتبر نفسه كحمامة وحيدة وسط أعداء كثيرين يحاولون افتراسه وابتلاعه ومع ذلك كان له الإيمان المعنمد على الله، كان يقارن بين قوة الإنسان الجسدية وقدرة الله الفائقة وهكذا كان يرتفع فوق الأمواج المتلاطمة. ونستطيع أن نرى إيمانه في كلماته "على الله توكلت فلا أخاف ماذا يصنعه بي البشر".
ولما انطلق داود ونجا بحياته صار قلبه يرقص طرباً وطفق يرنم ويسبح الرب وهذا هو موضوع الكلمات التي تغني بها في مزمور 34.
- عدد الزيارات: 2348