الأصحاح الثاني والعشرون
غدر داود جت بقلب ممتلئ بالشكر من أجل مراحم الله التي أنقذت حياته. أسرع في عبور الحدود ثانية، ووجد نفسه مرة ثانية في مملكة شاول، وأدرك أن حياته في خطر شديد ولم يكن هناك بديل من أن يهرب إلى جبال اليهودية حيث كان ملماً بها إذ كان يرعى غنمه فيها. وعلى بعد ميلين من جت حيث توجد في وادي البطم ناحية مكتظة بالمغاير تقع إحداها بقرب مدينة عدلام الكنعانية القديمة ولذلك سميت باسمها. اختبئ داود زمناً طويلاً في هذه المغارة، وإلى هذه المغارة هربت عائلته بأسرها إذ كانت تخشى بطش شاول، وإليها أيضاً التجأ كل رجل متضايق وكل من عليه دين وكل رجل مر النفس فكان عليهم رئيساً. وجدوا في داود ما يخفف عنهم فانجذبوا إليه ولصقوا به. وفي وجود هؤلاء الأشخاص حول داود الملك المرفوض نرى رمزاً يشير إلى ربنا يسوع المسيح له المجد الذي في الإمكان أن يلجأ إليه كثيرون فيجدوا راحتهم وشبعهم وفرحهم لا سيما الذين يشعرون أن خطاة وتثقل قلوبهم وضمائرهم خطاياهم وعندئذ يجدون فيه راحتهم إذ يجدون غفراناً لخطاياهم. إن له القدرة والكفاية على مقابلة كل احتياجاتهم، يقابلها في غنى نعمته.
وكان هؤلاء الرجال مع داود خارج المحلة، وهو مكان كل شخص مرتبط بالمسيح- مرفوض من الناس، ولكن له كرامة عمل اسم المسيح، ومكتوب "فلنخرج إليه إذن خارج المحلة حاملين عاره" (عب 13: 13). والذين يرتبطون به في عاره لا بد أن يتذكرهم الرب في مجده "إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه"، وداود في هذا رمز لشخصه المبارك إذ أن الذين ارتبطوا بداود الآن كان لهم شرف شغل مراكز كبيرة في مملكته.
وكتب داود مزمور 34، ويشير فيه إلى مغارة عدلام وأيضاً مزمور 57، كما نجد صلاة له في مزمور 142 وتم استجابتها بأن أرسل إليه الرب هؤلاء الرجال الأربعمائة. وتبدأ هذه الصلاة بصراخ "بصوتي إلى الرب أصرخ. بصوتي إلى الرب أتضرع" (ع 1) وتنتهي بالشكر "الصديقون يكتنفونني لأنك تُحسن إليّ" (عا 7).
ونرى هنا أيضاً محبة داود البنوية لأبيه وأمه، تلك المحبة التي دفعته لعبور تلك المسافة الطويلة من عدلام إلى موآب للبحث عن مكان أمين يأوي إليه أباه وأمه إذ كان سنهما لا يسمح لهما بتحمل مشقات وأخطار المعيشة التي كان يحياها داود. وقبله ملك موآب ربما لأجل صلة القرابة الجسدية، فجدته هي راعوث الموآبية.
وحين لجأ داود إلى موآب لم يكن هذا في فكر الرب ولا شك أنه فعل هذا في عدم إيمان فقد تركت جدته لأبيه- راعوث- أرض موآب موطنها الأصلي وذهبت لتعيش في أرض إسرائيل- لكننا نرى هنا حفيدها يترك الأرض المقدسة ليتغرب في أرض موآب. كان يجب أن يتعلم الصبر لأن الضيق ينشأ صبراً والصبر تذكيا أي اختباراً، وأرسل إليه الرب جاد النبي ليقول له إنه يجب أن يترك الحصن ويدخل أرض يهوذا، وكان جاد النبي وناثان النبي لديهما الشجاعة ليقولا لداود ما يريانه أنه خطأ وهذا يرينا أنه في كل ضيقات داود وفشله فإن الرب لم يتركه إذ تابعه بمحبته، لم يكن داود في يد شاول ولكن في يد الرب، وهذا هو نصيبنا وهذه هي قرعتنا. وقد قال داود مرة "تيهاني راقبت" (مز 56: 8).
ويرد جاد النبي هنا للمرة الأولى. وبعد ارتقاء داود العرش صار جاد رائباً للملك (2 صم 24: 11). وقد أرسل إلى داود ليوبخه على خطية عدّ الشعب. وبعد موت داود كتب تاريخ مملكته (1 أخ 29: 29). ويتضح من 2 أخبار 29: 25 أنه كان مهتماً بترتيب خدمة الهيكل.
كان أليآب أخو داود الأكبر وبقية إخوته معه ولم يكن يؤمن أن الله سوف يساعد داود، ولكن ها هو الآن يخرج معه منفياً بعيداً. وداود في هذا صورة لربنا يسوع المسيح الذي لم يكن إخوته يؤمنون به ولكن بعد الصليب وارتفاعه إلى المجد آمنوا به، ونراهم مع النساء في سفر الأعمال يشتركون في الصلاة.
وسمع شاول أنه قد اشتهر داود والرجال الذين معه. وتكدر شاول من الأخبار الواردة من جهة داود والذين معه. نعم كانوا جيشاً صغيراً ومحتقراً ولكن الرب كان في وسطهم. ويبدو من كلام شاول لعبيده أنه كان ناجحاً في جمع المال وتكثير الأشياء المتعلقة بالنظام الملكي حيث يتكلم عن رؤساء الألوف ورؤساء المئات والحقول والكروم التي كان يقدر أن يعطيها للذين أحبهم. وحزن على شيء واحد فقط وهو أن داود هارب ومختبئ. ولم يشأ عبيده أن يخبروه أين هو ولكن وُجد واحد تبرع بسرور ليخبره بكل شيء وهو دواغ الأدومي المذكور آنفاً، لكنه تحاشى ذكر براءة الكاهن، وروى الرواية بحيث يتبين منها كما لو كان الكاهن وبيته شركاء في الجريمة من داود. وعبثاً حاول الكاهن إثبات براءته.
استهزأ شاول علانية بحالة داود الحقيرة حيث قال لعبيده الواقفين لديه "هل يعطيكم جميعكم ابن يسى حقولاً أو كروماً" صحيح أن داود لم يكن له شيء منها. لكن كان من النادر أن يوجد رجل في مثل سعادته في ذلك الحين. إن كلماته الأولى في مزمور 34 هي "أبارك الرب في كل حين. دائماً تسبيحه في فمي" (ع 1) إن روح المسيح الذي أوجد فيه (وهو في جت) الأشواق نحو الله من خلال دموعه (مز 56) نراه الآن بعد أن تخلص من كل مخاوفه يتمم فرحه. ولا شك أن داود قد أشرك المنبوذين الذين في مغارة عدلام في فرحه كما فعل أيضاً مع كثيرين غيرهم في ذلك الوقت.
يتبع هذا منظر مرعب إذ أمر شاول بقتل كهنة الرب جميعاً في نوب، وكان هؤلاء الكهنة أحفاد عالي الكاهن، وفي هذا نرى تحقيقاً لقضاء الرب الذي تكلم به إلى عالي الكاهن، ولكن الرب في رحمته أنقذ ولداً واحداً وهو أبياثار، والذي نفذ عملية القتل هو دواغ الأدومي الذي لم يقتل الكهنة فقط وعددهم 85 رجلاً لابسي إفود كتان أي يقومون بخدمة الكهنوت، ولكن النساء والأطفال والرضعان والثيران والحمير والغنم وكل ما يتعلق بهم، لم يطلب منه شاول ذلك، ولكن من الناحية الأخرى لم يحاسبه على هذا الدم البريء الذي سفكه، ونرى هنا قساوة شاول وظلمه فالذي أشفق على العمالقة أباد كهنة الرب بدون رحمة.
وكتب داود مزمور 52 بسبب وشاية دواغ الأدومي، وقد اغتم داود جداً لهذه المأساة. فأولاد الله يتألمون جداً إذا وجدوا يوماً أنهم كانوا مصدر بلية لغيرهم. ولا بد أن داود قد تألم بشدة ‘ذ تذكر أن الكذب الذي أنزلق إليه كان هو المفجر لهذه الكارثة الدموية.
وما أجمل الكلمات التي قالها داود حين هرب إليه أبياثار ابن أخيمالك ولجأ إليه إذ قال له"
(1) قم معي: ويمكن تطبيقها على الإقامة في دوائر الشركة، نفس الشركة التي بين المؤمن والآب والابن وبينه وبين المؤمنين.
(2) لا تخف: وهي كلمة ترد كثيراً في المكتوب، ويقولها الرب لنا في مناسبات كثيرة وتعطينا الثقة في محبة الله وقدرته.
(3) لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك: وهنا نرى ارتباط أبياثار بنفس المصير مع داود. وهو يذكرنا بالرابطة العجيبة بين المؤمنين كأعضاء الجسد وبين المسيح الرأس الممجد في السماء، كما يذكرنا بقول الرب له المجد "أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ" (يو 14: 19).
(4) لأنك عندي محفوظ: ونحن أيضاً بقوة الله محفوظون لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير (1 بط 1) محفوظون في الزمان وشعرة واحدة من رؤوسنا لا تسقط بدون إذن من الآب ومحفوظون لكي نصل إلى بيت الآب لأننا في يد الابن ويد الآب.
- عدد الزيارات: 1880