الأصحاح الرابع عشر
لا يحتمل المؤمن أن يرى ذل شعب الله أو أية إهانة تقع عليه. فلم يطق يوناثان صبراً وبناء على إيمانه القوي في إله إسرائيل عقد النية على محاربة الفلسطينيين. لذلك قال لحامل سلاحه الذي كان في توافق تام معه "تعال نعبر إلى حفظة الفلسطينيين الذين في ذلك العبر". وإن كانت الخطية تدفع شعب الله ليد أعدائهم وتسلمهم للهوان إلا أن حقوق الله لا تمس. هذا هو فك الإيمان. وحالما ينفرز المؤمن لله عن كل شيء ويقف معه تقوى ثقته وتتقد فيه نار الغيرة لله وينشط لخدمته. فيوناثان لم يستشر لحماً ولم يخبر أباه لأن شاول لا إيمان له. ولو استشاره لضعف عزمه وخارت قواه.
لم يكن شاول يعرف شيئاً عن تحركات ابنه وكان في نفس الوقت محاطة بمجموعة صغيرة عددها ستمائة رجل كانوا تحت الرمانة التي في مغرون. ومعنى اسم مغرون إزاحة الأعداء جانباً وقلبهم. وكان معهم أخيا بن أخيطوب. ومعنى كلمة أخيا "يهوه أخي" وأخيطوب معناها "أخو الصلاح" وكان معهم أيضاً إيخابود ابن فينحاس بن عالي كاهن الرب في شيلوه. ومعنى إيخابود "أين هو المجد" وكان معهم الأفود لكنهم لم يسألوا الرب.
كان يوناثان يعرف جيداً أنه لا يسير اثنان معاً إن لم يتواعدا، وأن الإيمان لا يتوافق مع عدم الإيمان. وكان إيمان حامل سلاحه لا يقل عن إيمان يوناثان. والإيمان لا يستخف بالصعوبات لكن عينه على الله. وكان الفلسطينيون متحصنين بين الصخور المسننة لذلك فالقوة الجسدية لم تنفع شيئاً. وكان سن صخرة من جهة الشمال حيث يوجد نصب الفلسطينيين واسمها "بوصيص" ويعني اسمها "إشراق" حيث ينعكس نور الشمس على سطحها المواجه للشمال، وهي علامة اللعنة، وهذا يشير إلى أن إسرائيل كان في ظل دينونة الله إذ كان أعدائهم في نجاح. لكن بالرغم من كل هذه الصعوبات كان الإيمان عاملاً في قلب مكرس ليثق في الله. فقال يوناثان لحامل سلاحه "تعال نعبر إلى صف هؤلاء الغلف لعل الله يعمل معنا لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل" (ع 6) لقد كانت نظرة يوناثان للفلسطينيين أنهم غلف، أعداء شعب الله ولا قوة لهم بالمقابلة مع الله. وكان رد حامل سلاحه الذي لا يُذكر اسمه لكنه معروف عنده وقال ليوناثان "اعمل كل ما بقلبك. تقدم هأنذا معك حسب قلبك" (ع 7). كان الإثنان في وحدة مباركة، وألقيا بنفسيهما تماماً على الرب. كان يوناثان عندئذ موضوعاً في الرب ويا لها من جرأة بدت منه ومع عجز إسرائيل أن يحدد سيفاً باسم إله الجنود يهوه إله إسرائيل فقد مضى يوناثان في سبيله. وأظهر يوناثان نفسه للفلسطينيين ووقف في مكانه (ع 9، 10) وكان مستعداً أن يعمل كما يأمره الله، ثم يقف حتى يأتوا إليه، أو يطرح نفسه في وسط محلتهم، وبعد ذلك تعلم من افتخار الأعداء وهزئهم حين عيّروا الإسرائيليين فكان كلامهم علامة ليوناثان أن الرب قد دفعهم ليد إسرائيل. وبقوة إيمانه تقدم متسلقاً الصخور راكعاً على يديه ورجليه ونرى في ذلك رمزاً للتغلب على الصعوبات بالركوع للصلاة وكان حامل سلاحه يتبعه. فطفق يوناثان يعمل بالقوة المعطاة له من الرب وتحقق وجود الرب معه مستخدماً إياه. فأكرم الرب ذراع يوناثان التي تشددت وعملت بالإيمان مع الله الذي أظهر ذاته فوقع رعب الرب على أعداء إسرائيل (ع 13- 15).
وكانت الضربة الأولى التي ضربها يوناثان وحامل سلاحه نحو عشرين رجلاً. تطلع شاول شاول من مرقبه في جبعة فرأى الذعر الشديد في محلة الفلسطينيين, لقد تُرك تحت الرمانة التي في مغرون بينما ينتصر الله بواسطة يوناثان فقال شاول للشعب الذي معه "عدوا الآن وانظروا من ذهب من عندنا" (ع 17) فكان النظام ظاهراً في إسرائيل ولكنهم مجردون من الإيمان "فعدوا وهوذا يوناثان وحامل سلاحه ليسا موجودين".
"فقال شاول لأخيا قدّم تابوت الله" (ع 18) وهنا أيضاً التظاهر بإكرام الله بطلب الإرشاد منه. وفي هذه الأثناء "تزايد الضجيج الذي في محلة الفلسطينيين وكثر" وحيث أنه لم يعتمد على الله قال للكاهن "كف يدك" وهذا يرينا اضطرابه وحيرته وعدم إيمانه.
ونزل شاول إلى محلة القتال. ومن دون إبطاء أسرع وجنوده وراء الأعداء الهاربين. وحسب الظاهر تجلّت في شاول قوة كبيرة لكنها لم تكن من روح الله. ولما انضم إلى الحرب لم يكن إلا مكدراً ومعطلاً إذ تصرّف من إرادتها الذاتية وضايق إسرائيل بسبب حلفه الذي حَلفه. وظن في عماه أنه يستطيع أن يساعد في هزيمة الفلسطينيين هزيمة كاملة. لقد وضع شاول الشعب بسبب حلفه تحت ناموس فرائض "لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هي جميعها للفاء في الاستعمال" وعبّر عن حكمة بشرية بعيدة عن أفكار الله, وكان غرضه ليس لمجد الله بل لأجل مجد ذاته حبث يقول ".. حتى أنتقم من أعدائي". ولم يكن يوناثان يعرف شيئاً عن هذا الحلف, وأخذ قليلاً من العسل على طرف النشابة فاستنارت عيناه. والعسل رمز للأشياء التي من الطبيعة الإنسانية وحلاوتها واستخدامها بالطريقة السليمة ليس أمراً ممنوعاً ولو ركع يوناثان على ركبتيه وملأ بطنه من العسل لكان ذلك سبباً في أن يتثقل في المعركة وعندئذ لا يكون صالحاً في الدخول إليها. لكن الإيمان الذي فيه استمر في عمله شاعراً بمحبة الله متمتعاً بالمحبة الكاملة وقبل ما يقدمه الله في طريق الخدمة في قلب شاكر وتناول منه ما يكفي لإنعاش روحه واستمر في خدمته وحفظ نفسه من معرفة القسم وتأثيره "وحيث روح الله فهناك حرية".
شعر الشعب بالجوع والضعف والاعياء بسبب حلف شاول، وكانت هناك نتيجة أردأ إذ أكل الشعب من لحم الغنيمة مع الدم، وكان في هذا كسر للناموس (لا 3: 17) وحين أخبر يوناثان بما فعل أبوه. قال "كدّر أبي الأرض".
وبنى شاول أول مذبح للرب لأنه كان يخاف من دينونة الله له، وحين سأل الرب "أأنحدر وراء الفلسطينيين أتدفعهم ليد إسرائيل؟"، لم يجبه الرب بشيء وتحقق أنه كانت هناك خطية، وتصور أن الخطية كانت خطية يوناثان ولم يكن لديه مانع من أن يقتله، يقتل الرجل الذي حقق النصرة للشعب، ولكن الشعب افتدى يوناثان فلم يمت.
هكذا كان شاول يرتكب حماقة وراء الأخرى، ولكن الرب أظهر رحمته له لعله يعود إليه تائباً ومن الناحية الأخرى يُظهر كل ما في قلبه من رداءة.
وكان الاختبار التالي لشاول هو عماليق، والدرس هنا كما في أي مكان آخر في الكتاب نجده في خروج 17 وعدد 24 لأن عماليق من نسل أدوم أي عيسو، ويُمثل شهوات الجسد، وفي نبوة بلعام (عد 24) قال بلعام "يبرز كوكب بن يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل.. ويكون أدوم ميراثاً ويكون سعير أعداؤه ميراثاً" وسعير هي مكان سكني أدوم الذي منه جاء عماليق، وكان كلام الرب إلى موسى أنه لا يعطي بني إسرائيل حتى وطأة قدم في أرض عيسو، ومعنى هذا أن عماليق سوف يستمر حتى مجيء المسيح الملك وعندئذ يهلك إلى الأبد وإلى ذلك الوقت فإن اليد على كرسي الرب. "للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور" (خر 17: 16)، أي أن خراب عماليق يقترن بمجيء المسيح للملك، والجسد لا بد أن يستمر حتى مجيء المسيح للملك.
لم يكن شاول هو الملك الحقيقي الذي هو المسيح، ونرى الآن قوته بعد الخلاص الذي تم في مخماس إذ أصبح فعلاً الملك على كل إسرائيل. وحارب جميع أعداء إسرائيل وانتصر عليهم وعمل ببأس وخلّص إسرائيل من جميع أعدائه.
يذكر هنا ثلاثة أبناء لشاول، ونقرأ في مكان آخر عن اسم رابع "إيشبوشث" ومعنى اسمه "رجل العار" وهو الوحيد الذي بقى بعد موت أبيه. وكان الثلاثة المذكورون هنا مصدراً لقوة أبيهم وسلطانه على الشعب كما تدل على ذلك أسماؤهم ولم يكن من الموافق أن يُكر اسم إيشبوشث معهم، وكان شاول على ما هو عليه يحب يوناثان ومع ذلك أراد أن يقتله وفاء لقسمه الأحمق، كما أراد أن يقتله بسبب عهده مع داود، ومعنى اسم يوناثان "الرب أعطى". وكان هو بكر شاول، وكما قال يعقوب عن رأوبين بكره إنه فضل القوة وفضل العز.
وكان اسم ابنه الثاني "يشوى" ومعنى اسمه "خادم الله للصلاح" كما جاء في رومية 13: 3 "أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ. افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ". والاسم الثالث "ملكيشوع"، ومعنى الاسم "ملكي مخلّص" أي الذي يضع ثقته في الملك المخلّص وكما تعني أسماء أولاد شاول فإن هذا كان جديراً أن يُعطِى لشاول أبيهم قوة للسيطرة على الشعب. أما بنات شاول "ميرب" ومعنى الاسم "يزداد"، "ميكال" ومعنى الاسم "مجرى صغير"، وهكذا نرى أن قوة شاول ازدادت كما تزداد المياه في مجرى صغير بسبب الغنائم التي حصل عليها من الفلسطينيين. وكان معنى اسم زوجته "أخينوعم" أي "أخي السرور" وهذا يتوافق مع ازدياد قوة شاول لسروره بانتصاراته.
أما أبنير فرئيس جيشه فمعنى اسمه "أبو النور" وهو نور زائف بقي بعد موت شاول وكان معضدِاً لإيشبوشث الأمر الذي أوصله إلى موت العار.
- عدد الزيارات: 2753