الأصحاح الثالث عشر
لقد أبرأ شاول ذمته إزاء الغزو العموني، لكن الامتحان الحقيقي لقدرته على السلوك أمام الله في مركزه الجديد الرفيع كان في طريقه. وسرعان ما جاء بعد نصرته في يابيش جلعاد.
صرف شاول السنة الأولى في بيته ممارساً أشغاله الخاصة (ص 11: 5) ثم ابتدأ ينظم المملكة نظاماً ملكياً إذ صرف جيشه الذي كان قوامه 330 ألف رجل على أنه بعد ذلك أنشأ جيشاً صغيراً ثابتاً من ثلاثة آلاف رجل، كان ألفان منها بمثابة حرص خاص له في مخماس وهي قرية تقع على بعد تسعة أميال من أورشليم وإلى الشمال من جبعة. وكانت الألف الثالثة مع يوناثان في جبعة بنيامين. وذلك تنظيم حكيم بلا ريب لكنه بدون إيمان إذ كما قال يوناثان فيما بعد "ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل "الإيمان لا يحتاج إلى حراسة. وهنا يظهر يوناثان للمرة الأولى ومعنى اسمه "الرب أعطى".
كانت بداية الامتحان الحقيقي لشاول حينما برز الفلسطينيون ضد شعب إسرائيل، وكان شاول قد مُسح للقضاء على أولئك الأعداء بوجه خاص، ولكنه كان فاشلاً تاعساً وكانت العاقبة أنه هم الذين قضوا عليه.
وفي هذا درس خطير لنا فمنِ الجائز أن نحسن التصرف إزاء بعض التفاصيل ونفشل في بعضها الآخر، وكل منا يعرف في أعماق نفسه نقطة الضعف عنده، فليتنا نتعظ بهزيمة شاول ونجعل حارساً على كل نافذة أو فتحة قد يدخل منها العدو ويهزمنا.
كان الفلسطينيون أخطر عداءً من العمونيين وغيرهم لأنهم استوطنوا الجانب الغربي من أرض الرب وتملكوا الساحل. ولا يزال اسمهم يُدعَى على البلاد حتى اليوم وكان عبثاً أن ينتصر شاول على أعداء يبعدون عنه كثيراً بينما يعجز إزاء الأعداء القريبين. وهكذا نحن أيضاً فإن انتصارنا على بعض الشرور يكون قليل القيمة إذ كنا نتسامح مع مساوئ أعظم تسبينا إرادتها.
غير أن يوناثان تحرك بباعث من إيمانه وقتل إحدى حاميات العدو مما أثاره، وعندها استدعى شاول الشعب إلى اجتماع متوقعاً أنهم يخرجون كرجل واحد، مثلما فعلوا يوم الهجوم العموني، ومن ثم يفوزون بنتيجة مماثلة. وكان أسلوبه غير عادي إذ قال "ليسمع العبرانيون" ويقول الروح القدس في العدد الثاني "فسمع جميع إسرائيل" إن إسرائيل هو تسمية النعمة و"العبرانيون" اصطلاح يذكر حقيقة متصلة بإبراهيم العبراني (تك 14: 13) غير أن أموراً كثيرة حدثت منذ يوم إبراهيم فبنعمة الله عَبر نسله البحر الأحمر ونهر الأردن وصاروا الآن شعب عهد الله في أرض الموعد. غير أنه لم يكن لدى شاول إحساس بحقيقة روابط الشعب بالرب، ويتكلم الأعداء عنهم "كعبرانيين" تحقيراً لهم (ص 13: 19، 14: 11) ويبدو أنه من الملائم أدبياً أن يصف الروح القدس جماهير الذين هربوا عبر الأردن بوصف العبرانيين (ص 13: 7) وبهذا الوصف عينه يتحدث عن الخائنين الذين تحالفوا مع العدو (ص 14: 21) ولكن هل يليق بالملك أن يتكلم هكذا عن شعب الله؟
على أن الأسباط اجتمعوا ولكن بدون إيمان، فإنهم سمعوا أن الأعداء يتحركون ومعهم "ثلاثون ألف مركبة وستة آلاف فارس وشعب كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" فتضايقوا واختبأوا في "المغاير والغياض (الغابات) والصخور والصروح والآبار"، إننا لسنا مهيئين دائماً لنتائج حركات روح الله. هناك مخاطر لا بد من مواجهتها وتعبيرات لا بد من احتمالها، وأحياناً يتعثر إيمان قديسي الله في مثل هذه اللحظات. خذ التلاميذ مثلاً- لقد تهيبوا النتائج يوم تحدث الرب بقوة ضد الرياء والزيف فقالوا "أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا" (مت 15: 12) والعدو ينفر دائماً حينما يتحرك الله، غير أن الصادق يتقدم لا يخشى عدواً. ولكن المدهش أنهم يرتعبون في الجلجال! هم وشاول فقدوا الإحساس بدلالة الموقع حين ارتعبوا وهم فيه (ص 13: 7) لقد استُخدمت هناك سكاكين الختان وهم يدخلون كنعان للمرة الأولى- فهو الموضع الذي وجد فيه الجسد رمزياً قضاءً ودينونةً وحكماً على الذات- ليس لنا أن نخشى شيئاً إذا كنا نقمع الجسد فينا. فنحن نختبر حضور الله بالقوة حينما ندين الشر ولا نتسامح معه، فيحس الذين على الجانب المقابل أن هناك قوة بين أيدينا. والواقع والحق أن الجلجال هو نقطة ابتداء محققة لنصرة.
نأتي الآن إلى امتحان الملك المسكين- كان صموئيل قد وعد بحضوره خلال سبعة أيام، ولما غربت شمس اليوم السابع ولم يصل النبي فرغ صبر شاول. وما أشقى الجسد فهو دائماً قلق ولا يثق! تذكر شاول كيف قدّم صموئيل محرقة في مناسبة سابقة في الجلجال (ص 10: 8) فليفعل كما فعل صموئيل، لكن شاول ليس ملكي صادق، وبذلك أعلن شاول عصيانه وتدخل في أعمال الكهنوت. أين مكان المحرقة في أفكاره حتى يتصرف هكذا؟ إنها في أفكاره لا تزيد عن مجرد تعويذة كما كن التابوت في تقرير الشعب غير المؤمن في يوم حفنى وفينحاس. أيها القارئ العزيز إن الله هو المستند الوحيد، فإذا ما سمحنا لظاهر الطقوس والمراسم الخارجية أن تحتل مكان الله في أفكارنا فإنها تصبح ولا ريب ضرراً بليغاً في أيدينا الجسدية.
ماذا كانت مخاوف شاول؟ نراها في اعتذاراته التي أبداها لصموئيل حين دخل المشهد بعد نهاية تقديم الذبيحة فقل أولاً "لأني رأيت أن الشعب قد تفرّق عني" خشي الوحدة. ولكن ما قيمة أناس بلا إيمان؟ هوذا التحكموني ينتصر على ثمان مئة (2 صم 23: 8) وهوذا يوناثان وحامل سلاحه يزعجان جيش الأعداء كله. وهل نحن بدورنا نخشى أن نُترك وجدنا في خدمتنا وشهادتنا لله؟ ثم قال شاول ثانياً "الفلسطينيون مجتمعون في مخماس" يبدو انه له ثقة في صموئيل، ولكن العماد البشري لم يكن هناك! غير أن الله كان هناك. فإن الملك المسكين رأى نقص الشعب وقوة العدو وغياب الرجل الذي كان يستند عليه، لكنه لم يرَ الله.وبطريق المفارقة لنستمع إلى بولس في 2 تيموثاوس 4 "في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني. لا يُحسب عليهم. لكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم. فأنقذت من فم الأسد" (ع 16، 17). لقد استطاع بولس أن يواجه احتمالات المستقبل بقوله "وسينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلصني لملكوته السماوي الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين" (ع 8). يا لها من مفارقة بين رجلين من أمة واحدة وسبط واحد، يحملان التسمية الواحدة.
أحس بولس أن أهم درس تحفظه النفس هو الصبر "إن علامات الرسول صنعت بينكم في كل صبر" وبعد الصبر تأتي "بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ" (2 كو 12: 13) أي أن للصبر المكانة الأولى في الطليعة "فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ" (2 كو 6: 4) ويقول يعقوب "َأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ" (يع 1: 4).
ولم يتضرع شاول إلى وجه الرب وكانت هذه خطية شاول كل أيام حياته فكان يتسرع دون أن يطلب الرب أو ينتظر أمامه.
وبرغم ما أحسه شاول من التخلي عنه وعوضاً عن أن يتذلل أمام الرب معترفاً بخطاياه عدّ الشعب، وكانوا نحو ستة مئة رجل. ولقد كان مع جدعون نصف هذا العدد يوم هاجم محلة الديانيين. وكذلك لم تزد فرقة أبطال داود عن أربعمائة ولكن نجد في المكتوب ما أتموه.
لقد ضاعت المملكة الآن ولم يبق أمام صموئيل إلا أن يعلن الحكم الإلهي "قد انحمقت. لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك بها لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على لإسرائيل إلى الأبد. وأما الآن فمملكتك لا تقوم. قد انتخب الرب لنفسه رجلاً حسب قلبه وأمره الرب أن يترأس على شعبه لأنك لم تحفظ ما أمرك به الرب" ولقد تبررت عدالة هذا الحكم بما أبداه الملك المسكين من عناد في حملته التالية ضد عماليق (ص 15). والآن يذهب رجل اختيار الشعب ليفسح مجالاً لآخر.
غير أن واحداً فقط هو الذي يستطيع الله أن يستأمنه على مكان القوة. وما كان داود رمزاً ضعيفاً لشخصه العزيز، ذاك الذي كان صابراً وطائعاً خلال سنوات اتضاعه، سيملك بالبر نيابة عن الله في يوم قادم، ويومئذ تكون مشيئة الله كما في السماء كذلك على الأرض "آمين تعال أيها الرب يسوع".
- عدد الزيارات: 2062