الأصحاح الخامس عشر
والآن تجلّت تفاهة رجل اختيار الشعب وفراغه المطلق، فإن خيبته في استئصال شأفة العمالقة أصلاً وفرعاً دلت على أنه لم يكن لمشيئة الله مكان في قلبه، كان كل غرضه الفوز بالأسلاب الدسمة، وهكذا استبقاها. وفي شاول أحسن تطبيق لأقوال بولس الخطيرة "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ" (رو 8: 7، 8).
في 1 صموئيل 14: 47- 52 نرى ما أتمه شاول وهو ملك على إسرائيل. وكان رجل حرب، نجح بوجه عام في نضاله، لكنه لم يفعل شيئاً على الوجه الأكمل لم يصل إلى العمق إلى جذور الأمور. حارب الفلسطينيين لكنه لم يستطع أن يُخضعهم وإلا فما كانت تبقى "حروب شديدة على الفلسطينيين كل أيام شاول"، وكذلك حارب العمالقة لكنه لم يعمل على إبادتهم. وكان "إذا رأى شاول رجلاً جباراًَ أو ذا بأس ضمه إلى نفسه" ومن المستحيل أن نلمس في هذا جميعه آثار تدريب الإيمان وإنما استعلان الجسد لكل ما هو جسدي.
والآن يُفرد الروح القدس أصحاحاً كاملاً للكلام عن الحرب ضد عماليق لكي نرى بوضوح لماذا رفض الرب شاول، ونرى عدالة الله في هذا الرفض، كان حكم الله قد صار من قبل ضد ذلك العدو اللعين لشعبه، ففي رفيديم أمر الرب بحرب ضد عماليق من دور إلى دور، وموسى وهو يودع إسرائيل أوصاهم أن يمحوا ذكر عماليق من تحت السماء "لا تنس" (تث 25: 19).
حين أخبر الرب صموئيل بما فعله شاول وبأنه لا يمكن أن يكون بعد ملكاً، حزن النبي حزناً ثقيلاً حتى صرخ إلى الرب الليل كله، وفي إرميا 15 يذكر النبي بالوحي "صموئيل" كواحد من رجال الصلاة المشهورين في إسرائيل. لكن الصلاة في هذه المناسبة لم يكن لها جدوى. فقد امتُحن شاول بالتمام فوُجد ناقصاً. فشل بالرغم من كل الإمكانيات التي وهبها الله إياه. فلم يبق إلا أن يُنفَّذ الحكم، وكان التنفيذ عملاً محزناً على قلب صموئيل الذي كان واضحاً أنه يحب الملك الضال، فلما مضى ليبحث عنه شمع أنه ذهب إلى الكرمل، وأنه "نصب لنفسه نَصباً" (ع 12) أي عموداً تذكارياً تسجيلاً لانتصاره لأن الجسد يطلب مجده دائماً، وأخيراً وجده في الجلجال موضع الختان. ولو أن شاول كان قد تعلم درس الجلجال- الحكم على الذات- لأختلف تاريخ حياته تماماً. وبمظهر تَقَوى استقبل النبي بقوله "مبارك أنت للرب، قد أقمت كلام الرب" تلك أكذوبة يعرفها شاول، ولما سُئِل عن دلالة صوت الغنم وصوت البقر أجاب الملك بأن الشعب عفا عن خيار الغنم والبقر للذبح للرب، وفي العدد 9 يسجل المؤرخ المقدس "وعفا شاول والشعب.. الخ" مثل آدم في عدن، إذ عوض أن يعترف بخطيته أنحى باللائمة على الله لأنه أعطاه حواء.
كانت دعوة شاول غير مقبولة، فالمَلك لا بد أن يحكم، وينبغي أن يُعلَّم الشعب ما هو صواب ويتطلب الأمر عمل الصواب، في العدد 24 يقول شاول "خفت من الشعب وسمعت لصراخهم" وهكذا خاف رؤساء الكهنة والشيوخ من الشعب في يوم سيدنا (مت 21: 23- 27) إن هؤلاء الأشخاص جميعاً لا يصلحون إطلاقاً لأن يجلسوا في كراسي الحكم. وهوذا داود في كلماته الأخيرة يصف المَلك المثالي بقوله "إِذَا تَسَلَّطَ عَلَى النَّاسِ بَارٌّ يَتَسَلَّطُ بِخَوْفِ اللَّهِ" (2 صم 23: 3). على أن المُتسلط الكامل لن يُرى على الأرض حتى يأتي الإنسان الجالس عن يمين الله في مجد وقوة، ولكن ألسنا نسعى في الوقت ذاته أن نسلك في خوف الله ولا نخاف من البشر؟.
وفي كلمات قليلة مؤثرة يعيد صموئيل إلى مسامع شاول معاملات الله فيما مضى وعدم إطاعته لكلمة الله، ولم يكن فيما قاله معبراً عن رأيه الخاص بل كما قال هو "أخبرك بما تكلم به الرب إليّ هذه الليلة". ولما كان شاول صغيراً في عيني نفسه أقامه الله على أسباط إسرائيل، لكن تغيرت بعد ذلك مشاعره فهو الآن في تقديره الشخصي قائد عسكري عظيم تحت إمرته أكثر من مائتي رجل وقد أصبح أحد مشاهير الأرض، إنساناً يُخشى بأسه، وفي هذا الفخ نفسه سقط عُزباً بعدما حقق انتصارات عظيمة ومكتوب عنه "وَلَمَّا تَشَدَّدَ ارْتَفَعَ قَلْبُهُ إِلَى الْهَلاَكِ" (2 أي 26: 16). لكن المر يختلف كل الاختلاف بالنسبة لبولس الذي كان إحساسه بضعفه بنمو وبتزايد في نفسه على مر الأيام "أنا أصغر جميع القديسين" (أف 3: 8) ولابنه تيموثاوس يقول عن نفسه إنه "أول الخطاة" (ا تي 1: 15) وعند نقطة معينة في تاريخه تخلى عن اسم شاول مفضلاً أن يكون معروفاً باسم بولس الذي معناه "صغير".
لم يكن يُجدي شيئاً لشاول أن يلوم الشعب عما حدث، وأنه يحتج بأن خيار الغنم التي استحياها كانت ستُقدم ذبيحة للرب فقد بدد صموئيل كل المبررات حين قال "هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب؟ هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من لحم الكباش" (ع 22) وهنا مبدأ حيوي لشعب الله في كل العصور، فلا بديل على الإطلاق للطاعة، لقد كان الإنسان يسوع المسيح يسر طوال حياته بمشيئة الله، وترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته. فلزام علينا أن تكون أفكارنا العميقة وبواعث قلوبنا وتصرفاتنا في منازلنا وفي الخارج تحت سيطرة الله المعلنة. ولن يكون الاستناد على نفعنا للخدمة مقبولاً للتخفيف من وطأة ما نعلم أنه مناوئ لله ولكلمته. والتسامح مع الشر في محيطنا الكنسي على ترّجي الخير فيما بعد، لا ينفع قدام الله. فمهما تكن النتائج بالنسبة لنا وللآخرين، فلزام علينا أن نطيع.
كشف صموئيل الغطاء عن العصيان، وأعلن طابعه الحقيقي كما يراه الله، "التمرد كخطية العرافة والعناد كالوثن والترافيم" إن شاول نفسه في أفضل أيامه أدرك ما في العرافة من شر ومن إثم وعمل على وقفها (1 صم 28: 3- 9) ويبدو أنه في خلال مدة حكمه لم يُقِم تمثالاً منحوتاً لكنه هوذا يُقال له الآن إن عناده يساوي بالتمام العرافة والوثن. لماذا؟ لأن العناد يستبدل بالله شيئاً آخر سواه، أي يتحدى سيادة الله وسلطانه بمخلوقات يديه. إن العناد- رفض الاستماع إلى الصوت الإلهي- هو اليوم شر خطير مثل يوم وقف شاول وقد كشفه نبي الله في الجلجال.
وفي الجلجال- في هذا الموضع الذي اُختير دون غيره من المواقع ليقدموا فيه ثمرة الفساد لله- كان الجلجال فيما مضى محلة المعسكر إسرائيل، والبقعة في الأرض التي استخدمت فيها سكاكين الختان، كان درساً قائماً، درساً في غاية الخطورة- درس الحكم على الذات من جانب كل الذين يريدون أن يتعاملوا مع الله. غير أن الشعب وقد ضاع منه الإحساس بدلالة الموقع كملكهم جعلوا الجلجال فيما بعد واحداً من مراكز تعدياتهم ضد الله (هو 4: 15 وعا 4: 4، 5) على أن أقوال صموئيل الأمينة لم تُنشئ توبة في شاول. صحيح أنه قال "أخطأت لأني تعديت قول الرب" وقد تبين لنا أنه كان اعترافاً أجوف فيما قاله بعد ذلك مباشرة "والآن فأكرمني أمام شيوخ شعبي وأمام إسرائيل" ذلك أن القلب المنسحق فعلاً يرغب أن يأخذ أدنى مكان ممكن قدام الله، ولا ينبغي أن فكرة الكرامة قدام الناس تدخل في ذهن الشخص الذي يشعر بحقيقة خطيته.
أنشأ تدخل صموئيل موقفاً غير طيب حاول شاول أن يحسمه بأقل تأخير إذ يتحدث مع صموئيل عن "الرب إلهك" مرتين ويبدو أنه ضاع منه كل إحساس بعلاقته مع الله.
وإنه لأمر خطير حقاً أن نلاحظ أن صموئيل يتحدث عن رفض شاول بأسلوب يقارب أسلوب بلعام في كلامه عن بركة إسرائيل. فبلعام يقول "ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ" (عد 23: 19) إذاً فبركة إسرائيل محققة مهما يفعل العدو ومهما يظهر من الشعب من عدم أمانة. ويقول صموئيل "نصيح (رجاء) إسرائيل لا يكذب ولا يندم لأنه ليس إنساناً ليندم" إذاً فالرفض الإلهي لشاول محقق بقدر ما كانت بركة الأمة محققة، لأنه طالما أعطى الله كلمة فلن يتراجع عنها، وهذه الحقيقة المباركة، هي الراحة الحقيقية للإيمان في كل عصر.
نرى في أجاج الملك العماليقي حين قال "حقاً قد زالت مرارة الموت" أي حكم الموت- صورة للكثيرين الذين يظنون أن مرارة الموت قد زالت عنهم وهم على بعد خطوات منه، ويبعدون عنهم يوم البلية وهم قريبون منه، وإعدام الملك العماليقي هو خاتمة هذا الأصحاح الخطير، ولا يخامرن الشك قلب إنسان في عدالة هذا الحكم. فمن مبادئ الله السياسية الكبرى "فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً" (غل 6: 7). فكم ملأ سيف أجاج العنيف قلوب الأمهات بالحزن الثاكل وقد جاء دوره الآن في عدالة الله، كان ذلك الملك يستهين بموقفه، لم يكن نادماً على فظائعه حتى أنه تقدم إلى صموئيل فرحاً لكن صموئيل قطعه أمام الرب في الجلجال لأن الله نور كما هو محبة. وهناك ملك وثني آخر قد اعترف بعدالة ما وقع عليه يوم قطع آسروه أباهم يديه ورجليه فإنه كان قد فعل ذلك عينه لسبعين ملكاً (قض 1: 6، 7).
ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته لأن صموئيل ناح على شاول والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل.
- عدد الزيارات: 2240