الأصحاح الثاني عشر
نرى الآن رجل الله صموئيل- رجل الصلاة- متقدماً في السنين وواقفاً أمام الشعب ويقول "أنا قد سرت أمامكم منذ صباي إلى هذا اليوم" وهنا لا نرى نذيراً فاشلاً مثل شمشون ولكن رجلاً قد أكمل أيام انتذاره بكل ما في الكلمة من معنى، وهو غي ذلك كان رمزاً لذلك الخادم العظيم الذي جاء في ملء الزمان لا ليُخدم بل ليخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين، وشهادة صموئيل عن كماله تذكرنا بكلمات الرسول بولس في 2 كورنثوس 11: 6، 9، 12: 14- 17.
يقف الآن صموئيل أمام الشعب فرحاً بخلاص الشعب، ويستخدم ذلك ليؤثر فيهم ويعرفهم بحقيقة خطيتهم التي كانت عتيدة أن تؤدي بهم إلى الخراب وهي طلبهم ملكاً بدلاً من الرب، وكان النصرة عتيدة أن تعمي عيونهم أكثر، وأصبحت رحمة الرب لهم فرصة لابتعادهم أكثر عن الرب.
قصد صموئيل أن يعرفهم بحقيقة هذه الخطية وأنه ليس لهم عذر في ذلك لأن ابتعاد أولاد صموئيل عن السير في طريق أبيهم كان فقط يستدعى تصحيحاً لسيرهم وليس استبدال الرب بملك آخر يملك عليهم، كان الخوف من العمونيين هو دافعهم إلى ذلك، لم يكن لديهم ثقة في الرب، وكان كلام صموئيل فرصة لتحريضهم على الوقوف بجانب يهوه إذ ينبغي أن يتذكروا أعمال يهوه معهم في الماضي التي كانت معروفة لهم جيداً وهي إخراجهم من مصر واستحضارهم إلى الأرض التي امتلكوها بنصرتهم على شعوب كنعان. ورغماً عن ذلك فقد عبدوا أوثان المهزومين في الأرض التي كانت عطية يهوه لهم، عملوا ذاك بعد خلاصهم المرة بعد المرة، وكانت خطيتهم التي هي خطية آبائهم أساسها قلب غير خاضع في عدم إيمان.
ولكن يؤكد صموئيل كلامه إليهم طلب علامة من السماء، وكان أمراً معروفاً في إسرائيل أنهم يجمعون المحصول بدون أمطار، ولكن الآن في وقت الحصاد كان الرب في طريق إظهار غضبه أرسل رعداً ومطراً. وأحدثت هذه العلامة التي طلبها صموئيل تأثيرها عل الشعب إذ اصابهم الرعب وتحت هذا التأثير اعترفوا أنهم مذنبون وتوقعوا أن يموتوا، ولكن صموئيل كلمهم بكلمات تعزية نجد فيها ما يعطي السلام والطمأنينة لشعب الرب "لأنه لا يترك الرب شعبه من أجل اسمه العظيم. لأنه قد شاء الرب أن يجعلكم له شعباً". لأن هبات الله ودعواته هي بلا ندامة. وطلب صموئيل منهم أن يتقوا الرب ويسلكوا في الطاعة، كما أنه قال لهم إذا لم يسلكوا أمامه فإنهم سيهلكون وملكهم. وهذا يذكرنا بما سيحدث في الحصاد الأخير ونهاية هذا الدهر (مت 13: 39- 42) عندما يرعد الرب بالدينونة فيرجع إسرائيل إلى الله بالتوبة.
أما شاول الذي كان قد مَلك وأصبح مقبولاً لدى الشعب فإنه في نضارة انتصاره على ناحاش كان أمامه اختبار يجب أن ينجح فيه وإلا وُضع جانباً. ولم ينجح شاول في ذلك الاختبار إذ لم يكن لديه الإيمان الحقيقي بالله، كان يتصرف تحت تأثير الظروف، كان بطيئاً في الفهم متردداً حين كان الأمر يستلزم السرعة والحسم، ويندفع حين كان الواجب أن ينتظر. كان تصرفه غير طائع لله، وتبعاً لذلك كان يجب أن يوضع جانباً.
كان له ثقة في ذاته بعيداً عن فكر الله إذ كان أول عمل عمله له صفة الحكمة الإنسانية، وهو محاولة استرداد قوة يابيش جلعاد بأن جمع عدداً كبيراً من الأفراد ليس مسلحاً تسليحاً جيداً ولم يكن في الإمكان الوثوق بهذا العدد الكبير في حرب طويلة ومستمرة وكان هذا العدد عرضة أن يُهاجَم من الأعداء وعندئذ تحدث هزيمة مفجعة ولذلك أرسلهم إلى بيوتهم ما عدا ثلاثة آلاف رجل. وكان هذا العدد القليل جديراً بأن يثير الشك لدى رؤساء إسرائيل- لأنه لم يكن كافياً لكي يكون نواة لجيش مدرب.
أمَا وقد تثبّت المُلك، فإن قضاء صموئيل قد انتهى، بل إن نهايته كانت في الوقت عينه نهاية لعصر أو حقبة. ولعلنا لا ننسى بولس وهو يخاطب سامعيه في مجمع أنطاكية بيسيدية متتبعاً طرق الله مع إسرائيل، فإنه قال يومئذ "أَعْطَاهُمْ قُضَاةً حَتَّى صَمُوئِيلَ النَّبِيِّ" (أع 13: 20) وإذ ذاك اعتزل صموئيل القيادة المتحركة للشعب، فقد استقرت مسئولية القيادة على كاهل المَلك، ومن تلك اللحظة أخذ صموئيل يعمل كمجرد قوة تساند العرش، فيستطيع أن يصلي من أجل الشعب، وفي الواقع هم كانوا يطلبون ذلك، ويستطيع أن يعلمهم بقدر ما تسنح الفرصة "حاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (ع 23)، ومثل هذه الخدمة الصامتة يجب عدم التقليل من قدرها في أي زمن. فإن الأشخاص الذين نراهم بارزين في عمل الله وشهادته ليسوا هم الوحيدين الذين لهم قيمة- فإن حتى إخوتنا الذي يُقعدهم المرض ممن تعلموا قيمة الشفاعة ولا يستطيعون أن يخدموا إلا في خلوات البيت- هم رأس مال ثمين للكنيسة، ولسوف يعلن يوم المسيح كم من البركة التي اختبرها القديسون علانية وكانت ترجع إلى حد ما- لتضرعات وصلوات أولئك الذي لم يرَ القديسون وجوههم ولم يسمعوا أصواتهم- صحيح أمامنا أبفراس شريك بولس في سجن رومية، وكتب بولس في سجن رومية للكولوسيين "يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ ابَفْرَاسُ الَّذِي هُوَ مِنْكُمْ عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ مُجَاهِدٌ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ بِالصَّلَوَاتِ لِكَيْ تَثْبُتُوا كَامِلِينَ وَمُمْتَلِئِينَ فِي كُلِّ مَشِيئَةِ اللهِ فَإِنِّي اشْهَدُ فِيهِ أنَّ لَهُ غَيْرَةً كَثِيرَةً لأَجْلِكُمْ وَلأَجْلِ الَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ وَالَّذِينَ فِي هِيَرَابُولِيسَ" (كو 4: 12، 13).
تكلم صموئيل عن نفسه وعن أسباب دخوله وخروجه بينهم منذ حداثته "هأنذا فاشهدوا عليّ قدام الرب وقدام مسيحه. ثور مَن أخذت وحمار مَن أخذت. ومَن ظلمت ومَن سحقت. ومِن يد مَن أخذت فدية لأغضي عينيَّ عنه فأرد لكم" (ع 3) ولم يسع الشعب إلا أن يجيب "لم تظلمنا ولا سحقتنا ولا أخذت من يد أحد شيئاً".
وقد استطاع بولس يوماً أن يتجه إلى مَن عرفوه مثل ما فعل صموئيل حيث نرى كلماته الوداعية لشيوخ كنيسة أفسس (أع 20) وكلماته لأولاده الروحيين في تسالونيكي (1 تس 2: 1- 12) وكلماته لتيموثاوس في آخر رسائله. إن العظات أو كتابة الكتب الروحية لا قيمة لها أكثر مما تضفيه علينا حياتنا العملية. قال سيدنا عن الكتبة والفريسيين في يومه "عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ" (مت 23: 1- 3). ويا لها من أقوال خطيرة! كان التعليم حسناً ونافعاً، أما المعلمون فلم يكونوا متطابقين مع التعليم. وطوبى لرجل الله صموئيل كان أو بولس أو غيرهما الذي تشارف مدة خدمته على النهاية يقدر أن يلفت أنظار من كانوا يعرفونه إلى أسلوب حياته من البداية حتى النهاية. ويا ليت إلهنا يمنحنا نهاية وخاتمة كلها خير ونفع.
- عدد الزيارات: 2121