Skip to main content

الفصل الخامس - نهاية الإمبراطورية البابلية - الأحكام النهائية

الصفحة 10 من 10: الأحكام النهائية

الأحكام النهائية

عندما نظر الملك بيلشاصر طرف اليد الكاتبة "صرخ بشدة لإدخال السحرة والكلدانيين والمنجمين. فأجاب الملك وقال لحكماء بابل أي رجل يقرأ هذه الكتابة ويبين لي تفسيرها فإنه يلبّس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ويتسلط ثالثاً في المملكة. ثم دخل كل حكماء الملك فلم يستطيعوا أن يقرأوا الكتابة ولا أن يعرفوا الملك بتفسيرها"

يلجأ الإنسان في محنته إلى ما يؤمن به، وقد آمن بيلشاصر بسحرة مملكته وحكمائها، ومنجميها فلجأ إليهم ليقرأوا له الكتابة ويعرفوه بتفسيرها، لكنهم عجزوا عن قراءة الكتابة وبالتالي عن تعريف الملك بتفسيرها.

لقد قيل "لا يهم ما تؤمن به طالما كنت مخلصاً في إيمانك".. لكن الإخلاص وحده لا يكفي.. إن الوثنيين مخلصون جداً في عبادتهم لتماثيل أصنامهم، ولكن إخلاصهم لا يجعل هذه الأصنام التي لا تبصر ولا تسمع أن تفعل لهم خيراً أو شراً.

كان أنبياء البعل في أيام إيليا النبي مخلصين تماماً عندما دعوا إلههم ليستجيب لهم ويرسل النار على الذبيحة فوق جبل الكرمل. كانوا مخلصين لدرجة أنهم صرخوا بصوت عال وتقطعوا بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم، ولكن إخلاصهم الشديد لم ينفعهم، إذ لم يعطهم البعل جواباً لصلواتهم. (1 ملوك 18: 25 - 29)

الإخلاص في الإيمان لا يكفي، إذ يجب أن تؤمن بالإله الحي الحقيقي.

وهكذا أعلن حكماء بابل بكل فئاتهم عجزهم عن قراءة الكتابة.. لقد كانت الكتابة كتابة الله وليس قدرة أتباع الشيطان أن يفسروا أو يعرفوا كلمة الله.

"ففزع الملك بيلشاصر جداً وتغيرت فيه هيئته واضطرب عظماؤه. أما الملكة فلسبب كلام الملك وعظمائه دخلت بيت الوليمة فأجابت الملكة وقال أيها الملك عش إلى الأبد. لا تفزعك أفكارك ولا تتغير هيئتك. يوجد في مملكتك رجل فيه روح الآلهة القدوسين وفي أيام أبيك وجدت فيه نبرة وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة والملك نبوخذ نصر أبوك جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين. أبوك الملك. من حيث إن روحاً فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الأحلام وتبيين ألغاز وحل عقد وجدت في دانيال هذا الذي سماه الملك بلطشاصر. فليدع الآن دانيال فيبين التفسير.

حينئذ أدخل دانيال إلى قدام الملك. فأجاب الملك وقال لدانيال أأنت هو دانيال من بني يهوذا الذي جلبه أبي الملك من يهوذا. قد سمعت عنك أن فيك روح الآلهة وأن فيك نيرة وفطنة وحكمة فاضلة. والآن أدخل قدامي الحكماء والسحرة ليقرأوا هذه الكتابة ويعرفوني بتفسيرها فلم يستطيعوا أن يبينوا تفسير الكلام. وأنا قد سمعت عنك أنك تستطيع أن تفسر تفسيراً وتحل عقداً. فإن استطعت الآن أن تقرأ الكتابة وتعرفني بتفسيرها فتلبس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقك وتتسلط ثالثاً في المملكة" (دانيال 5: 9 - 16)

أولاد الله الأمناء بركة حيث يوجدون، فوجدهم يحول الفزع إلى هدوء، والخوف إلى ارتياح.. وهكذا كان وجود دانيال المؤمن الأمين بركة المملكة البابلية كلها.

وشهادة الملكة التي يبدو أنها لم تحضر الوليمة الماجنة بل دخلتها بعد أن عرفت بحالة الاضطراب والخوف والفزع التي سادتها عن دانيال ترينا تقدير الملكة الجديرة لدانيال فهي تصفه بأن فيه روح الله "روح الآلهة القدوسين" وبأن فيه نيرة أي نوراً، وفطنة أي فهماً، وحكمة أي قدرة على تطبيق معرفته في الحياة العملية، وأنه يستطيع تعبير الأحلام، وبأنه مع كل هذه الصفات به "روح فاضلة".

ها هو الملك يعرض عليه عطاياه أن "يلبّس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ويتسلط ثالثاً في المملكة" إذا استطاع قراءة الكتابة وتفسيرها.

لقد كانت الكتابة واضحة على مكلس حائط قصر الملك، وبقيت في مكانها.. وقرأ دانيال الكتابة وعرف لغة الله الذي يعبده.

إ، كتابة الله لا يفسرها أحد إلا إذا كان ممتلئاً بروح الله "هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1 كورنثوس 2: 11) فكلمة الله لا تعرف معانيها بالعقل البشري المجرد بل بنور الروح القدس المرشد.

"فأجاب دانيال وقال قدام الملك. لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري. لكني أقرأ الكتابة للملك وأعرفه بالتفسير. أنت أيها الملك فالله العلي أعطى أباك نبوخذ نصر ملكوتاً وعظمة وجلالاً وبهاء. وللعظمة التي أعطاه إياها كانت ترتعد وتفزع قدامه جميع الشعوب والأمم والألسنة. فأياً شاء قتل وأياً شاء استحيا وأياً شاء رفع وأياً شاء وضع. فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبراً انحط عن كرسي ملكه ونزعوا عنه جلاله. وطرد من بين الناس وتساوى قلبه بالحيوان وكانت سكناه مع الحمير الوحشية فأطعموه العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء حتى علم أن الله العلي سلطان في مملكة الناس وأنه يقيم عليها من يشاء وأنت يا بيلشاصر ابنه لم تضع قلبك مع أنك عرفت كل هذا، بل تعظمت على رب السماء فأحضروا قدامك آنية بيته وأنت وعظماؤك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر وسبحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده. حينئذ أرسل من قلبه طرف اليد فكتبت هذه الكتابة" (دانيال 5: 17 - 24)

ما أروع وأعظم دانيال في هذا الموقف التاريخي.. لقد رفض عطايا الملك "لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري" ثم بدأ بتوبيخ الملك على خطاياه.. ذكره بإذلال الله لأبيه نبوخذ نصر حين ارتفع قلبه وقست روحه.. وذكره بتوبة الملك نبوخذ نصر واعترافه الكامل بسيادة الله المطلقة. ثم وبخه على تجاهله ما عمله الله لأبيه الملك، أظهر له فظاعة خطيته، وتعظمه على رب السماء، واستخدام آنية بيته المقدسة في وليمته الماجنة، وأعلن له أن الله بيده نسمته، فهو يميت ويحيي يهبط إلى الهاوية ويصعد.. واختتم حديثه بالقول بسبب خطاياك الفظيعة أرسل الله في قلبه طرف اليد فكتبت هذه الكتابة. فهو إله قدوس وعادل وجبار وليس في قدرة أحد ان يتحداه.

"إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر. لأن فوق العالي عالياً يلاحظ والأعلى فوقهما" (جامعة 5: 8)

واستطرد دانيال يقول:

"وهذه هي الكتابة التي سطرت. منا منا  تقيل وفرسين. وهذا تفسير الكلام. منا أحصى الله ملكوتك أنهاه. تقيل وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً في قداسة حياته، وناقصاً في حبه، وناقصاً في عدله، وناقصاً في أدبياته، وناقصاً في احتماله، وبالإجمال ناقصاً في كل دوائر حياته.. وكان حكمه:

"أحصى الله ملكوتك وأنهاه"

ولكل واحد مملكته الخاصة، وحين يتحدى الإنسان الله، ويضرب بوصاياه عرض الحائط يحصي الله ملكوته وينهيه، ويسمعه كلمات داود القائلة:


"لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار.. لسانك يخترع مفاسد كموسى مسنونة يعمل بالغش. أحببت الشر أكثر من الخير. الكذب أكثر من التكلم بالصدق.. أحببت كل كلام مهلك ولسان غش. أيضاً يهدمك الله إلى الأبد. يخطفك ويقلعك من مسكنك ويستأصلك من أرض الأحياء.. فيرى الصديقون ويخافون وعليه يضحكون. هوذا الإنسان الذي لم يجعل الله حصنه بل اتكل على كثرة غناه واعتز بفساده" (مزمور 52: 1 - 7)

لقد أحصى الله حدود مملكة بيلشاصر.. أحصى غناه الموجود في خزائنه.. أحصى جيشه الكلداني القوي. أحصى كل ما ذخره آباؤه.. أحصى كل ما في ملكوته، وأنهاه.

صدر الحكم الإلهي بإنهاء الإمبراطورية البابلية.

وفي كل يوم يصدر الله أحكامه على المتكبرين، والمستهترين، والمتكلين على غناهم وثروتهم وقوتهم ومراكزهم.. وينهي حياتهم.

ضرب المسيح لسامعيه مثلاً قائلاً "إنسان غني أخصبت كورته. ففكر في نفسه قائلاً ماذا أعمل لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري. وقال أعمل هذا. أهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله يا غبي هذه  الليلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون. هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله" (لوقا 12: 16 - 21)

لقد كان هذا الرجل غنياً، وكان غبياً والفرق بين الاثنين نقطة تهبط إلى أسفل بدلاً إن كانت إلى أعلى.. وكان غبياً لأنه جعل نفسه "مركز الحياة".. وكان غبياً لأنه كان أنانياً. فقال "أثماري" "مخازني" "غلاتي" "خيراتي" "وأقول لنفسي" "استريحي وكلي واشربي وافرحي"

وكان غبياً لأنه خطط لحياته ومستقبله دون أن يعمل لله حساباً.

وكان غبياً لأنه خطط للمجهول الذي ليس له سلطان عليه "ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح ولا سلطان على يوم الموت" (8: 8)

وكان غبياًً لأنه ظن أن نفسه يمكن أن تحيا على الغلال مع أنه من الواضح أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (لوقا 12: 20)

هكذا أصدر الله حكمه بإنهاء ملك بيلشاصر

قسمت مملكتك وأعطيت لمادي وفارس

ما أدق كلمات النبوة.. لقد أعلن الله للملك نبوخذ نصر أنه بعد الرأس الذهبي الذي يرمز للإمبراطورية البابلية "تقوم مملكة أخرى أصغر منك" (دانيال 2: 39) وما قاله الله في النبوة لا بد أن يتم بكل دقة، فالله هو صاحب السيادة المطلقة والسلطان الكلي على التاريخ، هو الذي يعزل ملوكاً وينصب ملوكاً، هو المتسلط في مملكة الناس.

قرأ دانيال النبي للملك بيلشاصر الكتابة التي كتبتها اليد الكاتبة "حينئذ أمر بيلشاصر أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه وينادوا عليه أنه يكون متسلطاً ثالثاً في المملكة" (دانيال 5: 29)

هذا أمر ملكي من بيلشاصر الملك.. لكن ما قيمته؟ والملك سيقتل في ذات الليلة التي أصدر فيها أمره الكريم.

"لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره" (مزمور 146: 3)

"في تلك الليلة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين. فأخذ المملكة داريوس المادي وهو ابن اثنتين وستين سنة" (دانيال 5: 30 و 31)

بينما كان دانيال يفسر للملك بيلشاصر الكتابة كانت الجيوش المادية الفارسية تدخل مدينة بابل من قناة فتحتها تحت سور المدينة الضخم. اقتحم الجنود قاعة الوليمة وفي الحال اختلطت الخمر الحمراء بالدم الملكي البابلي.

في تلك الليلة قتل بيلشاصر على عرش أبيه

قتل بقضاء إلهي

ورقدت جثته على الأرض

بغير تاج وبغير صولجان

رقدت في رداء أرجواني.. كتلة من الطين

انتهت الإمبراطورية البابلية بعد أن امتلأ مكيال إثمها وتمت كلمات النبي إرميا التي قالها رب الجنود:

"إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض بقوتي العظيمة وبذراعي الممدودة وأعطيتها لمن حسن في عيني. والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نصر ملك بابل عبدي وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب وابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام" (إرميا 27: 5 - 7)

وها قد جاء وقت بابل وانتهى ملكوتها

وتظهر دقة النبوة في أنها حددت أن المملكة تقسم بين مادي وفارس – وقد حكمها الماديون لفترة قصيرة من الزمن ثم حكمها الفارسيون لوقت غير قليل.

وكما صدقت النبوة من المملكة البابلية، ستتم بدقة في كل ما قالته بخصوص المجيء الثاني للمسيح. اسهروا....

الصفحة
  • عدد الزيارات: 30464