السجود بالروح
والذي كان يعوز الساجدين المسيحيين ليس فقط مجرد حياة روحية وفداء، بل الروح القدس أيضاً. ولذلك نرى الرب يضيف على قوله السابق "الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" وأرجو أن يلاحظ القارئ الفرق في الكلام: فعندما يتكلم الرب عن الآب كمن يطلب ساجدين فإنه يقول إن هذا الطلب إنما هو نعمة خالصة صادرة مجاناً من قلبه المحب، إذ أنه هو بنفسه (أي الآب) هو الذي يطلب، فليس فقط يرضى عن سجود شعبه بل هو يطلب ساجدين. ولكن لنذكر أن أبانا هو الله على أنه الغرابة بمكان أن ننسى هذه الحقيقة، التي ما يكون نسياننا إياها سوى حالة جسدانية محضة ليست داخلة ضمن امتيازنا - بالرحمة السامية - في التقرب إليه تعالى – الامتياز الذي لا ينبغي أن يُخمِد بأي حال من الأحوال جذوة شعورنا بعظمته، بل بالأحرى ينبغي أن يزيد ويقوي فينا ذاك الشعور. يقول الرب له المجد "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" ومن هذا ندرك أننا تحت التزام أدبي لا نستطيع العمل بدونه. والحق هو أن المسيح يخلق ويحيي في حين أن الناموس لا يستطيع ذلك، إذ ليس منه إلا أن يقتل. وماذا كان يستطيع أو ينبغي أن يعمل للخطأة سوى أن يقتلهم؟ ولو أنه أطلق سراحنا لكان ناموساً غير صالح. فإذا كنت استحق الموت كإنسان مذنب مسئول أمام الله فالناموس إذاً عادل ومقدس وصالح في إدانته أياي. أما المخلص فمن حدود عمله أن يعطيني حياة، وليس مجرد حياة بل حياة بموته وقيامته، حياة بلا خطيئة أصلاً وفرعاً، حياة أستطيع بها أقوم فيه بطبيعة جديدة، معتوقاً بالنعمة عتقاً تاماً من شقاء وإثم وسلطان ودينونة الإنسان القديم.
هذا هو مركز كل مسيحي، وهذه هي عناصر حياته، وموقفه أمام الله – ولأن كانت هذه العناصر بسيطة إلا أنها مباركة وغنية جداً. وكما أنها ليست منفصلة عن عطية الروح القدس كذلك نحن نحتاج تمام الحاجة إلى هذا الأقنوم الإلهي حتى نستطيع أن نسجد لإلهنا وأبينا. ولأجل هذا الغرض ولغيره من الأغراض قد أُعطيناه ليبقى معنا. ولما قال الرب أن "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" فهذا يقوله عن الروح القدس المُعطى بالمسيح ليكون في المؤمن، والذي بدونه لا قوة على السجود. ولكن ها قد أُعطيناه، وها قد أتت علامة السجود الحقيقي بمعناه الصحيح.
فهل أنت على استعداد أيها القارئ أن تعترف – بأي حال من الأحوال – بسجود ليس من هذا النوع؟ وأحب أن أقول للأحداث الذين قد يكونون قليلي التثبيت في حق الله: قد تُجَربوا أيها الأحداث، ليس فقط بمجرد الميل الطبيعي نحو العالم وسجوده الباطل، بل لأن لكم أقرباء وأصدقاء قد تظنون من الصعب ألا تشتركوا معهم في السجود المسيحي. وأنني أنصح لكم أن تشتركوا معهم بكل ما ملكت أيديكم، وفي أي ظرف ومكان تجدوا سجوداً بالروح والحق فلا تخشوا من الاشتراك فيه، بل بالأحرى اسعوا وراءه بجد واجتهاد وإلا فهل أنتم ميّالون لتغضوا الطرف عن سجود كهذا إلى آخر يعمل أصحابه الجهد في أن يرجعوا به إلى جبل السامرة إذا لم يكن في مقدور الوصول إلى أورشليم – إلى خدمة دينية غير حقيقية وطقسية – إلى نظام يضم بين دفتيه نخبة من الساجدين الحقيقيين وجمعاً زاحماً من ساجدين ضالين؟ وكم في يومنا هذا ممن يفاخرون بالكلام بعبادتهم السماوية في طبيعتها بينما هم في الواقع يطلقون لأنفسهم العنان بعدم مبالاة مفضوحة مُظهرين بأن سماع المواعظ هو كل ما يهتمون له!! ونستطيع أن نتصور أن أناس كهؤلاء لا يعرفون شيئاً – ولا يحبون أن يعرفوا – سوى أن يسمعوا عن طريق الخلاص ويقتصرون على ذلك فلا يتقدمون ليأخذوا مركزهم كأولاد الله المدعوين والمؤهلين لأن يسجدوا للآب بالروح والحق. وما هذا سوى تعاسة وليدة الوجود في مركز محدود بما يعتبرونه ذا قيمة من منتخبات الجسد والعالم – مركز لا تعرف فيه ماهية السجود للآب بحسب كلمته.
على أنني أسلّم أن هذه الحالة – على ما فيها من أخطاء ونقص – أفضل من الانضمام إلى جماعة من المتدينين، الذين لجهلهم بفداء المسيح يُظهرون رضاهم عن نظام إنجيلي للخدمة نظام تعتبر ظلمته نوراً في نظر أصحابه لأنه يتفق مع حالتهم، وعادة أن السجود الجسدي يتمشى مع الحالة الجسدانية.
- عدد الزيارات: 4033