الجماعة والخدمة
قد يبدو لأول وهلة أن هذين الموضوعين اللذين سنتأمل فيهما هما موضوعان منفصلان انفصالاً بعيداً. وحتى لو ظهرا كذلك فهما في الحقيقة صادران من المسيح سواء بسواء: فكلاهما قائمان على أساس عمله كحقيقة قد تمت، وكلاهما صادران عنه وهو في مركز ارتفاعه عن يمين الله، وكلاهما أيضاً قد تأسسا لغرض صريح وهو تعظيم الرب يسوع كما للمحافظة على سيادته له المجد. ولهذه النقطة الأخيرة أهمية عملية خطيرة: إذ مهما كانت قوة الروح القدس في الخدمة، ومهما كانت امتيازات الجماعة، فإن لحقيقة سيادة المسيح ناحية جوهرية في فكر الله، ومركزاً خطيراً في إجراءات روح الله العملية سواء في الأفراد الذين هم خدام المسيح، أو في الجماعة التي هو رأسها كجسده الواحد. ولذلك فإننا نستطيع أن نرى أنه مهما اختلفت النواحي التي تتجه إليها الخدمة والجماعة فإن مصدرهما كلتيهما مصدر واحد، وقد قصد الله بهما أن تكونا خاضعتين للرب يسوع المسيح، وواسطتين لتعظيم شخصه المحبوب. وإنني أحسبه لزاماً عليّ في هذه الفرصة أن ألفت نظر القارئ إلى الشهادة التي تنطق بها كلمة الله عن هذين الموضوعين حتى أبين جهد الغرض الجامع لكليهما كما ومسئولية المسيحي إزاءهما.
على أنني في كلامي عن الجماعة سوف لا أطيل اكتفاء بما قلناه في موضوعي "الجسد الواحد" و "الروح الواحدة" غير أنني أحب أن ألفت نظر القارئ إلى بعض فصول من كلمة الله لأدلل بها على ما أسلفناه وقلنا وهو أن جماعة الله مؤسسة على عمل المسيح الكامل وعلى ارتفاعه إلى المجد السماوي.
وأحب أن أقول كمقدمة لكلامي أن لفظتي الكنيسة والجماعة تدلان على معنى واحد ولذلك قد استعملت في خطابي هذا كلمة "الجماعة" منعاً لسوء الفهم. وإن كان الجدل يثير أسئلة كثيرة حول كلمة "الكنيسة" ولكن من الصعب أن يوجد صعوبات بالنسبة لكلمة "الجماعة" أضبط في مطابقتها للأصل من كلمة "الكنيسة" التي كثيراً ما تحمل آراء غامضة بل ومتعاكسة مع غيرها.
ولنا في سفر أعمال الرسل – بالمقابلة مع مت 16 – ضوء كاف نسترشد به في موضوعنا المطروح أمامنا. ففي إنجيل متى نرى الرب يكلم بطرس بصفة خاصة – ولو أن الكلام كان للتلاميذ رفقائه أيضاً – مخبراً إياه بأنه كان عتيداً أن يبني جماعته. فيقول له المجد "على هذه الصخرة أبني كنيستي" ويرجع سبب ذلك إلى أن مكيال عدم إيمان اليهود كان قد كمل بعد أن أتى لهم المسيح ببراهين إلهية كاملة: في المعجزات والآيات وإتمام النبوات وفوق الكل في القوة الأدبية التي ظهرت فيه. الأمر الذي هو أعظم مجداً من المعجزات أو النبوة. أجل، وبعد أن استخدم كل الوسائل التي أملاها عليه صلاحه وحكمته، إرضاء لمشيئة الله الآب، وكانت نتيجة نعمته الصابرة أن استفحل عدم الإيمان به كالمسيا الحقيقي وازدادت الذراية بشخصه وتضاعفت جهود الروح العدائية ضده بعد هذا يسأل تلاميذه قائلاً "من يقول الناس أني أنا" وقد كان الجواب على سؤال الرب هذا بينة على شكوك إسرائيل، لا بل حتى أولئك العقلاء الذين رأوا من المسيح أموراً كثيرة أخطئوا في معرفته، ولذلك يعود ويسأل ليس شخصاً عظيماً. بل شخصاً صادق القلب وهو سمعان بن يونا وهكذا أرسلت شفتا سمعان ذلك الاعتراف السامي الذي طوبه عليه الرب نفسه، لأنه لم يكن اعترافاً من منتجات اللحم والدم مع ما يعتريهما من ضعف وما فيهما من مقاومة ضد الله، وإنما الآب الذي في السماوات هو الذي كان قد أعلن لنفس عبده بطرس هذا الحق العظيم وهو أن ذلك الشخص المستتر في الصورة المحتقرة، المطرود، الناصري، ليس فقط هو المسيح بل بالحري ابن الله الحي. وفي الحال تمسك الرب يسوع بهذا الاعتراف وقال – مشيراً إلى الجزء الأخير منه أي كونه ليس فقط المسيا أو المسيح بل "ابن الله الحي" على هذه الصخرة أبني (أي في المستقبل) كنيستي.
لقد كان المسيح – كالمسيا الظاهر في حالة الذل والاتضاع حجر صدمه لإسرائيل، ولكنه كابن الله الحي المعترف به كان هو الصخرة التي عليها تأسست الكنيسة. وهذه الاعتراف الكامل الذي نطقت به شفتا بطرس كان اعترافاً عميق الأثر، جديداً في ملئه وكماله وقد نظر إليه الرب بهذه النظرة. وليست جدة ذلك الإعلان قائمة في حقيقة كون المسيح ابن الله الحي منذ الأزل، بل في أن هذا الاعتراف قد فاه به لأول مرة فم بشري مرسلاً إياه من قلب تعلم من الله الآب. ولأول مرة أيضاً نرى أن الرب يسوع يعلن رسمياً أنه على أساس هذا الاعتراف سيبني كنيسته ولذلك أمر تلاميذه في الحال أن لا يقولوا لأحد أنه كان عتيداً أن يرفض ويتألم. فبعد رفض الشعب للمسيح، بل بعد اعتراف بطرس (كممثل للبقية) بمجد شخصه العظيم، نرى أن الرب يصرح بآلامه وموته في الحال. هذا هو الذي فتح الباب لعمل الله الجديد أي الكنيسة التي كانت ستبنى على أساس الاعتراف بيسوع المسيح بأنه "ابن الله الحي" وقد عقب ذلك أن الرب مات فوق الصليب، وتعين ابن الله بالقوة بالقيامة من الأموات، وتمجد وفي الوقت المناسب أرسل الروح القدس من السماء. والإصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل الذي يخبرنا بحقيقة حضور الروح القدس يرينا لأول مرة الجماعة كشيء موجود على الأرض.
وأرجو أن نلاحظ هذا بغاية الاعتبار: فلقد تكلم الرب في (مت 16) عن كنيسته كأمر سابق لأوانه في قوله "على هذه الصخرة أبني (أي سأبني في اللغة العربية) كنيستي" أما في (أع 2) فنرى الكنيسة آخذة في أن تبنى كما قيل في ختام الإصحاح "وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة (أو يضم معاً) الذين يخلصون".
وهذه مسألة هامة مليئة بالنتائج الخطيرة. فهي تبرهن على أن الكنيسة لا تعني مجرد أناس خلصوا أو سيخلصون – إذ أن الخلاص كان موجوداً قبل الجماعة – بل أن الرب أخذ أولئك الذين خلصوا وأدخلهم في الكنيسة. ولو لم تكن هناك جماعة يدخلهم فيها فهذا لا ينفي حقيقة كونهم مخلصين.
- عدد الزيارات: 2622