حكمة الله
وما أكرم الله فيما أعده من سخائه لتسديد أعواز أولاده! وبما أنني سأتوسع بمشيئة الله في هذه النقطة عند المحاضرة السادسة لذلك لا يسعني إلا أن ألفت نظر القارئ العزيز إلى حكمة الله البعيدة المدى في مواجهة صعوبات هذه الأيام التي لا تتوفر لنا فيها سلطة قانونية تقوم بتعيين الشيوخ كما كان في عهد الرسل. وليس معنى عمد توفر هذه السلطة أن الله ترك أولاده بلا معين. كلا. فإن لهم نفس الرب مصدر العطايا، ونفس الروح مجري هذه العطايا. لذلك لا حاجة إلى تعديلات يدخلها البشر، أو اختراع جديد يبتدعونه بقصد مواجهة الصعوبات الموجودة في أيامنا الحاضرة، بل الحاجة هي أن نرجع بالإيمان إلى ما كان، ولا يزال، موافقاً لمشيئة الرب. وهذا مع إدراكنا لحقيقة حالة الكنيسة والمشاعر التي تليق بتلك الحالة.
قد رأينا فيما مضى القاعدة الثابتة وهي أن الرب وحده هو الذي يعطي مواهب الخدمة هذه، وأن عطاياه تتوقف على محبته لكنيسته وأمانته نحو قديسيه. فهل لطف الرب يسوع نحونا في هذه الأيام الأخيرة أقل ولو ذرة واحدة من لطفه السامي نحو الذين كانوا موجودين في يوم الخمسين؟ من ذا الذي يقول هذا أو يتصوره؟ ولا أنا أستطيع أن أشترك بعواطفي مع الذين ينظرون إلى الأيام الأولى بحنين ورغبة في عودتها كأنها هي التي أفسحت المجال للأمناء. لا شك أن هالة النعمة متألقة أحاطت بذلك المشهد الحلو الذي لأول مرة حل فيه الروح القدس على الناس ببساطة وقوة أدهشت الجميع. ولكن من هو المصدر، ومن أين جاءت تلك القوة التي أنتجت ثمرات ندهش لها كثيراً لاسيما حينما نتأمل في ما كانت عليه الأرض من صلابة وعقم وجفاف؟ أليس مصدرها الرب الذي يعمل الكل لأجل اسمه الكريم بواسطة الروح القدس لما أخذ مركزه اللائق به في المجد بعد أن قام من الأموات وأصبح يعطي الناس عطايا؟ أفليست نعمته كافية لهذه الأزمنة الصعبة كما كانت كافية عندما أظهر نفسه في إعلانه السر الذي كان مكتوماً منذ الدهور، ألا يوجد في هذه الأزمنة قديسون يحتاجون إلى تكميل؟ ألا يوجد خدمة ينبغي أن تعمل، ألا يحتاج جسد المسيح إلى البنيان؟ فلا شك إذن في أن عطاياه لا تبطل إلا حينما يتم العمل وينتهي الجميع إلى وحدانية الإيمان. أما الأعداء الكثيرون، أما الشراك القانصة، أما الصعوبات المتزايدة، فلا تعمل إلا على إظهار المحبة الأمينة – محبة رب الجميع. فالكنيسة في هذه الأزمنة لها ملء البركة في المسيح كما كان لها في الزمان الغابر. فيا ليتنا نثق فيه أكثر فأكثر في كل ظرف.
فهل نستخف بالحق أو نشك في نعمة الرب ونخترع لأنفسنا ما يروق لنا، ونصنع لنا عجلاً ذهبياً كأننا لا نعرف ماذا يليق بذاك الذي صعد إلى العلاء؟ حاشا لأولاد الله أن يعملوا هكذا!! ولكن افرض أيها القارئ أنك اجتمعت مع بعض إخوتك المؤمنين كجماعة الله، ولا تعرفون من الذي سيتكلم أو يعظ أو يشكر أو يصلي. طبعاً حالتكم هذه يراها عدم الإيمان فوضى وتشويشاً. ولكنه من الجهل بمكان إذا نسيت ذاك الذي في الوسط، كما أنه من أسباب الفشل والخيبة إذا كنت لا أؤمن أن الرب في الوسط، أما إذا تأكدت أن ذاك الذي دُفِع له كل سلطان في السماء وعلى الأرض يحب الكنيسة ويدبرها، وأن الروح القدس ذاك الشخص الإلهي يسكن معنا وفينا، فمن أي شيء أخاف يا ترى؟ وإن كان هذا الموقف يليق بأحد القديسين فإنه يليق بالجميع. أما عن نفسي فلا أجرؤ لحظة واحدة أن أستند على أساس لا يضم جميع أفراد كنيسة الله، ولا يسعى نحو جمع قديسي الله ليضمهم معاً. ولا ينبغي أن ننسى وجود حالات استثنائية لا يجوز فيها قبول أو ضم أشخاص واقعين في شر يستلزم قطعهم (استبعادهم) نظير فساد الآداب والتعليم الفاسد وما أشبه.
أما إذا عرفت أن هذا هو الأساس الكتابي الذي تقوم عليه الكنيسة، وأنه منذ البداءة لم يوجد أساس آخر تعرف بمقتضاه الرسل القديسون، فينبغي أن أسأل نفسي: هل أنا سائر بموجب هذا الأساس؟ إذا كنت مدعواً من الرب لأتعب في الكلمة والتعليم فإن الرب الذي دعاني هو الذي يريني كيف أخدم فهو يفتح الباب الذي لن يقدر أحد أن يغلقه، ويغلق ولا أحد يقدر أن يفتح. وهو يوجد طريقاً لأضعف خادم من خدامه ويعطيه الشجاعة الكافية والإرشاد الكامل فيما لو أراد أن يخدمه. فعلينا ألا نشك مطلقاً في أمانته.
ولكن قد يسأل واحد: ألا يجوز أن يوجد في كنيسة واحدة عدة أشخاص حصلوا على مواهب؟ الجواب: يا حبذا لو ازداد أمثال هؤلاء فإنهم ينفعون كثيراً. فإذا وُجِد في كنيسة واحدة خمسة أو عشرة من أصحاب المواهب فلنشكر الرب لأن ميدان الخدمة متسعاً للجميع. وليحمنا الله من أن نوافق على بدعة تفرد كل خادم بقطيع خاص لنفسه!!! أليست هذه البدعة سُبَّة وعارا في جبين الذين يروجون لها وجبين ذلك الذي يسمونه قطيعاً خاصاً بهذا الخادم دون ذاك؟ فلا يقدر أحد أن يتصرف حسناً – لا بل ولا يعرف أن يتصرف حسناً. ما دام لا يعتقد في أعماق نفسه بأن القديسين هم "قطيع الله". ولكنه واضح أن الناس إذا ما أهملوا أساس الكنيسة الإلهي فلا يتكلمون عن قطيع الله بل ترى بعضهم يقول "هذا قطيعي" ويقول آخر "ذاك قطيعك" وقد كان على الدوام مجال فسيح لممارسة مواهب الرب مهما كان وكيفما كان أصحاب المواهب الكثيرون. كما أنه من الغرابة بمكان أن يخشى أحد أصحاب المواهب أنه سيأتي وقت يُستَغنى فيه عن خدمته لأنه زائد عن حاجة العمل.
وحتى أصل إلى نهاية المحاضرة التي أشعر أن الكلام قد طال فيها أقول: أنني قد اجتهدت فيما مضى أن أوضح الفرق الجوهري بين المواهب والوظائف فقد رأينا أن المواهب صادرة من المسيح في الأعالي، وأن الوظائف فلا وجود لها الآن لعدم توفر السلطة القانونية لتعيين الخدام. وكل ما يجريه الناس في مسألة التعيين في هذه الأيام إنما هو تقليد دنيء – مملوء بالمكابرة – لما كان يعمله الرسل أو نوابهم. أما إذا كنت تحب الرب أيها القارئ وتحترم الترتيب الإلهي فإنك تحت التزام باسم الرب أن تعترف بجميع أصحاب المواهب بكيفية لم تتعود عليها. نعم- وأن تعترف بهم سراً وجهراً في العمل الذي أقامهم فيه الرب الذي دعاهم. فإذا كانت الموهبة صغيرة فيجب أن تعترف بالرب في تلك الموهبة من كل قلبك كما لو كانت عظيمة. وإذا كانت موهبة عظيمة فينبغي أن تعترف بها بكل تواضع ووداعة كاعترافك بالمواهب الصغيرة ومن الجهة الأخرى لا تقلد أنت وإخوتك ما كان يعمله الرسل. واحترسوا من أن تدّعوا عمل ما لا يجب عمله إذا لم تتوافر لديكم السلطة الرسولية، متذكرين في بالكم وقلوبكم أن تعيين الشمامسة أو انتخاب الشيوخ لم يسمح بها الكتاب المقدس ما لم تتوفر سلطة مباشرة أو غير مباشرة من الرسل – الأمر الذي لا وجود له في زماننا هذا.
- عدد الزيارات: 2624