ينبوع الحياة الأبدية
ولو تدرجنا قليلاً في هذا للإصحاح نفسه لوجدنا تعليماً واضحاً عن الموضوع، ولو أننا رأينا أساسه في العدد العاشر. فعندما تأثر ضمير المرأة السامرية وعرفت أنها في حضرة نبي – ولو أنها لم تعترف به حينئذ كمسيا – نقرأ أنها في الحال طرحت أمامه ما أشكل عليها من المسائل الدينية لكي يحل له الأشكال واثقة بأنه قد جاء بحق الله فقالت "أرى أنك نبي" وبهذه المناسبة أرجو أن يلاحظ القارئ أن أهم ميزات النبي – سواء في العهد القديم أم في العهد الجديد – هي أن يستحضر الضمير رأساً إلى محضر الله لينشر نوره على النفس. قد وُجِد أنبياء كثيرون استطاعوا بصعوبة أن يخبروا بأمور عتيدة ومع ذلك كانوا أنبياء حقيقيين. وإذ وجدت امرأتنا هذي نفسها في حضرة شخص يستطيع أن يعلن حق الله، فقد أرادت منه أن يجيب نفسها إلى أسئلتها. فلقد توجهت إليه بخصوص مسألة كانت ولا تزال في كل الأزمنة ذات أهمية لا تدانى وهي مسألة الدين، والعالم نفسه، على عماه وفي موته، لا يدافع عن أمر أكثر من دفاعه عن ديانته. لقد كانت توجد فروق في موضوع السجود كما أن بيننا الآن فروقاً، والمرأة تعرف بوجود مثل هذه الفروق بدليل قولها "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل. وأنت م تقولون أنه في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجَد فيه" ولكن الرب يجيب بكل حزم على هذا السؤال فيقول "يا امرأة صدقيني أنه يأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب". ومن ثم يستطرد في حديثه فينطق بكلمة توبيخ "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم لأن الخلاص من اليهود" واضح أنه مهما كان آمال اليهود الباقية لهم فإنها مؤسسة جميعها على إيمانهم بالمسيح. على أنه بينما يدافع – له المجد – عن مركز اليهود (لا عن حالتهم) فإنه يعلن عن فجر يوم بهيج فيقول "تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له". ولقد استطاع أن يتكلم بهذا الوضوح وذلك الحزم لأنه كان هو ابن الله نفسه الذي في حضن الآب، وكان له الحق – بسبب مجد شخصه – أن يُدخِل سجوداً يوافق معرفته الشخصية الدقيقة وإعلانه الكامل عن الآب.
وبناء على هذا يستطرد الرب فيوضح صفة السجود المسيحي أيضاً إيضاحاً تاماً. فيعلن لنا الله كالآب الذي يدعو ويتبنى له أولاداً، لا بل ويطلب أولاداً. وفي هذا كمال المحبة الآتية من السماء ولأجل السماء. لقد كان على الإسرائيلي أن يطلب يهوه، وذلك بواسطة طقوس معينة ومراسيم جافة، وبهذه الطريقة وحدها استطاع ذلك الشعب المختار أن يأتي إلى الله ويظهر أمامه في سجوده له. ومع المراعاة الدقيقة في هذه الخطوات فما كان في ميسور واحد منهم أن يدنو من محضره تعالى، ولا حتى رئيس الكهنة نفسه، الذي وإن كان مستطاعاً له أن يدنو ويقترب فلم يكن دنوه هذا لله المعلن كالآب. فلم يكن الله أباً لهارون ولا فينحاس ولا صادوق البارزين، ولا لغير البارزين من أي عضو في أسباط إسرائيل، لأنه لم يكن عندهم إعلان عن الله في هذه الصفة – أي كالآب. أما الآن فقد أتت الساعة حتى يطلب الآب فيها ساجدين. لقد دل الاختبار على أن النظام اليهودي ناقص وها هو الآن قد دِين وقُضي عليه. وكان الله يرى أن القدس العالمي قد انهدم ولذلك كان المسيح أمامه تعالى هو الهيكل الحقيقي. فقد جاء ابن الله وكان في مجيئه هذا قلب للأمور ظهراً على عقب – لا ليعلِّم فقط بل ليغير كل شيء. لذلك لا عجب إذا وجدنا في حياته وبواسطة حضوره إعلاناً جديداً كاملاً عن الله – إعلاناً عن اسم الآب. وفي إصحاحنا هذا نرى المسيح يعلن الأمر الجديد من هذا الوجه: أي كيف يجب أن يُبطِل السجود الأرضي، ليس من جبل جرزيم فقط بل حتى من أورشليم، إذ قد تبدل السجود عن معناه الأصلي فصار سجوداً للآب بالروح والحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين، وما أعجب هذا الحق أيها القارئ العزيز!
نعم، ويا له من حق مجيد سامي أن الله الآب يسعى بمحبته الصمدانية المبدعة طالباً ساجدين! طبعاً كان يتمم هذا السعي بواسطة ابنه العزيز وبعمل الروح القدس، غير أن المبدأ الظاهر في هذه الآية هو أنه كالآب يطلب ساجدين وذلك بالمقابلة مع الطبيعة ومع الديانة اليهودية. فالسجود المسيحي ليس هو فقط ذا خاصية جديدة كل الجدة لاقت بإعلان الله الجديد عن نفسه، بل قد أطفأ بالضرورة المصابيح العتيقة للقدس الذي كان يُعتَرَف به في اليهودية قديماً. والذي حدث ليس فقط أن السجود السامري الأعرج قد دِين إلى الأبد بل إن ضوء السماء اللامع مجاناً قد كيف الأشعة الضعيفة التي كان القصد منها في إسرائيل أن تجلو الظلام، وأن تبقي على شهادة لنور عتيد أفضل. وما كان يعترف به الله ويستخدمه إلى حين إذا به عتيد أن يصبح عدماً وعبئاً ثقيلاً، وقد أدخل الله – كما نرجو – تغييراً عظيماً ببر فائق. ويجدر بنا أن نذكر أن الإنسان كان قبل ذلك الوقت تحت الامتحان: فاليهودي – كمثال للإنسان المُختار المُنعم عليه – قد جاز الامتحان ولم تكن نتيجة امتحانه سوى صليب وعار الرب يسوع فلقد رفضوا وقتلوا مسيحهم لأنهم لم يعرفوا أنه الرب الكائن فوق الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد. وأخيراً، وبعد أناته وصبره، طرح اليهود جانباً بعدل وحق. ومن هذا نرى التدرّج الأدبي في طرق الله ومعاملاته. فلم يكن في رفض الله لإسرائيل ظلم أو استبداد ولا شك أن كل من يؤمن بما أعلنه تعالى في كلمته بالنسبة لرفض إسرائيل مسيحهم يدرك عدم وجود ذرة من الظلم إذ لم ينطق بذلك الحكم عليهم إلا بعد تدرجه معهم وصبره الطويل عليهم. لقد كانت الحياة وخدمة المسيح على الأرض إعلان لنعمة غنية وأناة طويلة لم يسبق أن شاهدهما البشر أو تصوروا حدوثهما. أما الآن فقد أتت النهاية أمام الله لأن اليهود بتصرفاتهم الخاطئة قد فصموا آخر عروة استطاع أن يرتبط بها شعب في الجسد مع الله العليّ، وإذا رفضوا مسيحهم فقد رفضوا أنفسهم. ولكن بعد أن صار الصليب أمراً واقعياً. وبعد أن تم الفداء، وبعد أن أُقيم ربنا يسوع المسيح من الأموات، إذا بالنعمة والحق اللذين صارا به قد أشرقا في عمله على الصليب، وقد أعلن الروح القدس ذلك الفداء العظيم الذي لم يكن حينئذ مجرد وعد بل كان قد تم وكمُل، ومن ثم فكل الذين آمنوا قد حصلوا على ما يمكِّنهم من السجود للآب، وليس على مجرد إيمان بالمسيا – إذ أن هذا الإيمان كان فيهم حال وجوده معهم على الأرض. والآن وقد صار لهم فيه الفداء بدمه غفران الخطايا، وقد أعلن لهم المسيح الله نفسه كأبيه وأبيهم وإلهه وإلههم (وهذا بقوة وحضور الروح القدس المُرسَل من السماء) فقد استطاعوا أن يدخلوا إلى الأقداس ويعبدوا بحق الإله الحقيقي وأن يقولوا – ليس فقط بواسطة الرب يسوع بل معه – "يا أبّا الآب".
- عدد الزيارات: 3127