Skip to main content

ماهية السجود

المحاضرة الرابعة

السجود وكسر الخبز والصلاة

يوحنا 4: 10 – 24 

إن أول وأهم قسم في الموضوع المطروح أمامنا هو الخاص بالسجود، وهو قسم يهمنا أكثر من القسمين الآخرين لما له من مساس كبير بالله نفسه، وإنني مقتنع بأن هذا أصدق وأضمن وأنفع قياس لنفوسنا. لا شك أن كسر الخبز قد يكون متضمناً في السجود، إلا أنه يستدعي بحثاً خاصاً لما له من طبيعة مزدوجة ووجهات نظر خاصة نحو القديسين أنفسهم، في حين أن السجود – كما هو في حقيقته يتجه بالضرورة إلى الله. وقد رأينا أن نفرد مكاناً خاصاً لكسر الخبز بالنسبة إلى أهميته العظمى إذ هو يقدم لنا، بكيفية مؤثرة وطريقة تسبي القلوب، ما يذكِّر نفوسنا بذلك الإعلان العميق الخطير عن القداسة الإلهية والنعمة الغنية الباديتين في موت الرب. وعندما يجتمع القديسون ليكسروا الخبز فهناك يتساوون جميعاً، ويعترفون كلهم بحالتهم التي كانوا عليها بدون سفك دمه الكريم، ويتذكرون ما هم فيه بفضل ذلك الدم، وفوق ذلك فإنهم يعترفون بصفات ذاك الذي مات كفارة عنهم. هذا تقدمه لنا المائدة حتى نذكر الرب – إلى الأبد – في شكر وتعبد ونحن في سلام.

والفصل الكتابي الموضوع في رأس هذه المحاضرة لا نرى منه فقط أن السجود ناحية مباركة رفيعة مثمرة من نواحي الحياة المسيحية، بل نرى منه أن الرب يقارن بينه وبين ما وضعه الله للتدابير الماضية. وكما قد لقينا فيما مضى، من تأملنا في معاملات الله القديمة، عوناً على تفهم إعلانات الله الجديدة في العهد الجديد، فسوف نلقى ذلك العون لموضوع السجود.

وأحب أن أقول أولاً – كمقدمة لمحاضرتي – أن السجود يستلزم حالة خاصة للنفس. فالله ينتظر السجود من أولاده إذ أنه واجب محتوم ملقى على عاتقهم، ولكن حتى يكون السجود مسيحياً فعلاً فلا بد من وجود مبدأ من جانب الله وجانب أولاده كما هو الحاصل بالنسبة للجسد الواحد الذي هو جماعة الله وبالنسبة لعطية الروح القدس. وإذا كان هنالك دائرة يُحسَب السماح فيها بالإرادة الذاتية خطية وعاراً فتلك هي دائرة السجود لله. ولكن هل نجد دائرة تصرف الناس فيها مراراً بهذه الكيفية الخاطئة وبلا ضمير أكثر من هذه الدائرة؟ وهل هناك عمل يعظم الإنسان به ذاته ويقاوم روح النعمة أكثر من هذا العمل؟ ولا يحسبن القارئ أنني أقسو في لهجة كلامي هذا. وهل هي قسوة وصرامة أن نتكلم عن تداخل يضل العالم، وينجس الكنيسة ويفسد مجد المسيح الأدبي؟ وها نحن نرى الإنسان يعمل – سواء على أساس فاسد أو بلا أساس – طول الطريق، على إهانة الله بالرغم من الإعلانات الواضحة التي قدمها ويقدمها تعالى عن نفسه في ابنه العزيز. وما دام الله قد تكلم وعمل فعلاً هكذا فهو تعالى قد أعلن لنا تماماً.

هذا هو ينبوع آمالنا وغبطتنا، والأساس الذي يقوم عليه السجود المسيحي (أي إعلان الله لنا ذاته تماماً). ومع أن حصولنا على إعلان كامل عن الله في المسيح هو نقطة جوهرية في موضوع السجود المسيحي، إلا أنه ليس كافياً مهما كان. فالإنسان له حاجة يجب أن تسدد بحسب المجد الإلهي. وتبارك اسم الله فإنه تعالى لم يعدم وسيلة لإعلان نفسه تماماً إن لم يترك شيئاً ناقصاً، كما أنه لم يعمل عملاً لا يعد كاملاً. وكل ذلك حتى لا يكون للريب أو الجدل مجال في الأمر.

لا شك أن الله قد تدرج في إعلانه لفكره ومشيئته ومجده، وأظنه جائزاً إذا قلنا أنه تعالى لم يستطع أن يعلن جميع أفكاره قبل أن يبذل ابنه. أما وقد جاء الابن فنستطيع أن نقول – كمؤمنين – بلا تردد "قد أعطانا بصيرة لنعرف الحق" وإذا لم نقل بجرأة وشجاعة "نعرف" فإننا في هذا نكون متهاونين طواعية، ومتمردين على ما أعطاه لنا الله لكي نعرفه بواسطته. أليس هو أمر عظيم أيها القارئ، في عالم الظلمة هذا، أن يضع الله – حتى في أفواه أطفاله – مثل هذه اللغة الحازمة "نعرف"؟ أجل – وهو تعالى يريد أن نقيم الدليل على القول "نعرف" ليس فقط بالنسبة إلينا بل بالنسبة إليه تبارك اسمه. كثير لنا أن نملك كتاباً إلهياً نستطيع أن نشرف منه – بإرشاد الروح القدس – على الماضي، ونتطلع إلى المستقبل ونطل على الحاضر فنقول عن الأزمنة الثلاثة "نعرف". وأعظم من ذلك بكثير أننا نقول باتضاع وصدق "نعرف الحق ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح" (1 يو 5: 20).

والمسألة ليس مسألة مبلغ تقدم أولاد الله في المعرفة. ولو أنه لا بد من النمو في المعرفة ولكن مع هذا يجب أن ندافع عن ذلك الحق الأساسي المبارك وهو أن كل نفس أتى بها الله لذاته، لها مسحة من القدوس وتعرف كل شيء. ثم أن حصولنا على هذه القدرة الإلهية يفوق بمراحل أي درجة من التفاوت يمكن وجودها في النمو العملي. لا شك أنه يوجد تفاوت في هذه الناحية ولذلك فهناك مجال لتدريب الذهن الروحي، ولا ريب في أن روح الله يعمل فينا بواسطة الحق لكي ننمو. ومن جهة أولاد الله فلنثق تمام الوثوق أنهم ولو وُجِدوا في ظروف حرجة فإن الله قد أعطاهم طبيعة جديدة تمكنهم بالروح القدس من إدراكه تعالى وتقديره والتمتع به، وما أجدرنا بأن نجعل حياتنا التي نصرفها على الأرض فرصة للنمو إذ هي المدرسة التي علينا أن نتعلم فيها الحق اختيارياً، ونطبق ونغرس في نفوسنا ما قد حصلنا عليه بنعمة الله، متذكرين أن معرفة الحق هي امتياز كل ابن لله كما يقول الرسول "لم أكتب لكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمونه وأن كل كذب ليس من الحق" (1 يو 2: 21).

  • عدد الزيارات: 2614