Skip to main content

شروط السجود لله

على أن امتياز معرفة الحق هذا يشير إلى الحاجة القصوى التي يفتقر إليها الإنسان لكي يكون ساجداً، إذ هو في ذاته – ما لم يولد من فوق – ليس كفؤ للسجود لله، نظير الفرس الذي لا قدرة له على فهم العلوم أو الفلسفة. وإنني – مبدئياً – أنكر على الإنسان الطبيعي إنكاراً كلياً قدرته على السجود لله فلابد أن يكون خليقة جديدة في المسيح، وأن يحصل على طبيعة جديدة من الله، وبذلك يستطيع أن يعرف الله ويسجد له. على أن مجرد الحياة الأبدية – التي تحصل عليها كل نفس بإيمانها بابن الله – لا تؤهلني وحدها للسجود، والله نفسه لم يكتف بأن أعطاني تلك الحياة: فلقد أعد وسائط أخرى عظيمة الأهمية ومنحها – ليس لبعض من أولاده – بل لهم جميعاً. ومع ذلك ففي كثير من الحالات – ويا للأسف – يعتري الظلام منظر هذه النعمة العظيمة، ويتعطل تمتعنا بها. وقد يكون من الصعوبة بمكان أن نميز القدرة الإلهية أو قوة السجود. على أنه من حقنا أن نستند على الرب وعلى حق كلمته الراسخ وعلى كمال نعمته.

وإذا كان الله قد وهب حياة جديدة لأولاده، وصالحهم لنفسه بذاك الذي حمل خطاياهم في جسمه فوق الخشبة، فلأي غرض صنع هذا العمل العظيم يا ترى؟ لا شك أنه صنعه لمجده الخاص مدفوعاً فيه بمحبة قلبه، ولكن دعوته لأولاده لكي يسجدوا له ويعبدوه الآن هي ناحية من نواحي ذلك المجد وصدى لمحبته تعالى. وها نحن نتأمل الآن في هذا الموضوع الهام – موضوع السجود المسيحي، الذي يتطلب حصول الساجدين على عطية الروح القدس المنسكب في يوم الخمسين كما تتطلبه الجماعة ومستلزمات الخدمة. وهو (أي السجود) ركن من أركان تعبد أولاد الله لأبيهم، وعبارة عن سكب القلب الذي يطلبه الله من جميعهم.

إذاً: فأول أمر يعوز الإنسان لكي يتمكن من السجود كمسيحي هو أن يولد من الله بحسب نعمته تعالى في شخص المسيح، وأن يقبل الروح القدس ليُسكَب فيه. ولنا في جواب الرب على المرأة السامرية المذكورة في (يو 4) تعليم مبدأ السجود. قال له المجد "لو كنت تعلمين عطية الله ومن الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً" وهنا جوهر السجود "لو كنت تعلمين عطية الله". فليس هو الناموس (ولو أنه معطى من الله نفسه) الذي مع وجود تلك المرأة تحت حكمه إلا أنها لم تعرف عنه شيئاً (لأن السامريين كانوا خليطاً: فكانوا أمماً صرفاً ولكنهم متهودين باعترافهم وصورتهم) وحتى لو كانت شريعة الله معروفة في ملئها وكمالها، ولم تمتد إليها يد التعطيل والإفساد من ناحية الإنسان، إلا أنها بكل تأكيد ما كانت تصلح أساساً للسجود المسيحي. فكلام الرب كان "لو كنت تعلمين عطية الله" – هبة الله المجانية: أعني لو أنها عرفت الله كالمعطي وكمن يعمل حسب سخائه ومحبته المجانية. هذه هي الحقيقة الأولى وتليها في الأهمية حقيقة أخرى متضمنة في قول الرب "ومن الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً".

لقد كان الله – طول الوقت الذي صادق فيه على الناموس كنظام – يسكن الضباب، بمعنى أنه لم يعلن ذاته بل حجبها. ولكن حينما جاء الابن الوحيد، وأعلن الآب لم الله شاغلاً مركز المطالب للإنسان – تلك الصورة التي أظهر بها الناموس صفاته تعالى. لا شك أن تلك الصفات التي أعلنها الناموس هي صفات صحيحة وكاملة وصالحة (كالوصية ذاتها) وكان على الإنسان لقاءها أن يخضع له تعالى وينفذ مطاليبه الإلهية. إلا أن الإنسان كان خاطئاً وما كان التشدد في تنفيذ المطاليب الإلهية سوى إيضاح وإبراز خطايا الإنسان. ولو أن الناموس كان صورة الله – كما يعلِّم بذلك باطلاً بعض اللاهوتيين الأغبياء المضللين – إذن لترك الإنسان بغير رجاء وإذا لهلك. على أن فكراً كهذا لهو بعيد كل البعد عن الحق الكتابي. فالناموس ليس هو الله – ولو أنه منه تعالى – ولا ظلاً لله، بل هو القياس الأدبي لما لله من حقوق على الإنسان الخاطئ. الله نور، الله محبة، وإذا كان الإنسان في أعماق العوز فإنه يعطي مجاناً عطية كاملة كذاته العلية. في الحقيقة إن هذا يليق به – تبارك اسمه – وما يسره له المجد. قيل "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" فلو أن الله أُغمِط حقه في أكثر الأمرين غبطة (أي العطاء) لبدا ذلك غريباً. ولكن لا! فقد تمتع بحقه، وإن كان بحسب الناموس هو الآخذ (ما لم يكسر الإنسان ذلك الناموس)، إلا أنه في الإنجيل هو المعطي – المعطي من أعز ما يملك، لأولئك الذين ما كانوا يستحقون سوى الهلاك الأبدي.

وقد استطاع الله أن يعطي الإنسان كل هذا بواسطة مجد واتضاع ابنه العزيز الذي تنازل وتألم للحد الأقصى من أجل الخطاة. لذلك ما أصدق وأجمل أن ينطق الرب بهذه الكلمات الحلوة "لو كنت تعلمين عطية الله ومن الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً" كأنها لو عرفت نعمة الله، ومجد ذاك الذي تكلم معها بحرية، لطلبت فوجدت كل ما تحتاج إليه. على أنها ما فكرت إلا قليلاً أن ذلك الشخص هو الرب، إله السماء والأرض، الابن الوحيد الذي في حضن الآب. ولو أنها أدركت شيئاً من هذا لطلبت فأعطاها ماء حياً – الماء الذي يُقصَد به الروح القدس. وهل نحن بحاجة لأن نقول أنه لا يستطيع أحد ما أن يعطي مثل هذه البركة سوى شخص إلهي فائق؟

ومن أقوال الرب يسوع هذه نرى كيف أنه له المجد يضع الأساس اللازم للسجود المسيحي. فأولاً نرى الله معلناً في نعمته كما هو في الإنجيل بالمقابلة مع الناموس ثم نرى الابن متنازلاً في فرط صلاحه، راغباً في أن يكون مديناً للإنسان في أقل الأمور لكي يباركه في أعظم الأمور بمحبة تستطيع أن تربح أكثر الخطاة إهمالاً وعناداً. وآخر الكل نرى عطية الروح القدس. فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة ضرورية لحياة السجود المسيحي، فكم يكون السجود نفسه في صفته الحقيقية وغايتها الأصلية في فكر الله؟ وهو في الواقع يفترض إعلاناً كاملاً من الله عمن هو تعالى في طبيعته الإلهية وفي نعمته المتجهة نحو الإنسان. ويفترض أيضاً أن الابن قد وُجِد بين الناس بالمحبة ليبلغ ذلك الإعلان في إبطاله الخطية بذبيحة نفسه. ويفترض آخر الكل أن القلب الذي تيقظ إلى أعوازه الحقيقية يطلب فيأخذ من الرب ماء حياً – يأخذ الروح القدس، ليس فقط كواسطة الحياة والتجديد، بل كينبوع ماء حي ينبع إلى حياة أبدية.

  • عدد الزيارات: 3430