الذين يخلصون
ولكن ما معنى القول "الذين يخلصون"؟ إن هذا القول يقصد به أولئك المعينين للخلاص من إسرائيل – أولئك اليهود الذين اتجهت نحوهم النعمة وعملت في نفوسهم. ففي وقت انحلال النظام اليهودي أبقى الله لنفسه بقية حسب اختيار النعمة. وفي كل زمان كان لله فيه ببقية، وما كانت أزمنة الانحلال والخراب إلا عاملاً في إبراز وإظهار تلك البقية أو "الذين يخلصون"، وجميع الذين كانوا عتيدين أن يعترفوا بيسوع كالمسيا بواسطة الروح القدس هؤلاء قيل عنهم "الذين يخلصون" – عل أنه لم تكن هناك حينئذ كنيسة يضمهم الرب إليها. أما في الوقت الذي أشار إليه (أع 2) فقد وجدت الجماعة أو الكنيسة التي استطاع الرب أن يضمهم إليها. وهذا الإصحاح يخبرنا عن الكنيسة بالارتباط مع حضور الروح القدس – الأمر الذي يتفق مع ما جاء في (1 كو 12: 13) حيث قيل "لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد"، أي أن تكوين الجسد كان موقوفاً على الاعتماد بالروح. وإن كان (أع 1) يخبرنا أن الاعتماد بالروح لم يحصل حينئذ غير أن (أع 2) يقول أنه حصل ومن ثم تظهر لنا حقيقة وجود الكنيسة فعلاً على الأرض. ولو أن حجارة ذلك البيت كانت موجودة قبلاً كحجارة حية ولكنها كانت متفرقة وقبل ذلك لم يكن الله قد بنى بيتاً كهذا البيت الجديد.
وهنا نحن نرى الرب ينفذ قوله "على هذه الصخرة أبني كنيستي" فقد أخذ يجمع الأحجار الحية معاً ويبنيها بيتاً واحداً – بيتاً لله، ليس بمجرد الإيمان بل بالروح القدس المرسل من السماء. ويذكر لنا الوحي في (أع 1) مائة وعشرين اسماً كانوا من "الذين يخلصون" وذلك حتى قبل أن ينضموا إلى الكنيسة. أنني لست أشك في انه قد وجد أكثر من هذا العدد ممن كانوا حقيقة إخوة بدليل ما نقرأه في (1 كو 15: 16) حيث قيل أن "أكثر من خمسمئة أخ" رأوا الرب بعد قيامته: لذلك من السهل أن نعتقد بوجود مؤمنين كثيرين في أرض إسرائيل. وما كان المائة والعشرون إلا الأفراد الذين عاشوا في أورشليم زمان الصلب أو بعده. ولكن مهما تعاظم عدد الأخوة في طول البلاد وعرضها، ومهما كثرت أفرادهم في أورشليم فإن الكنيسة التي هي جماعة الله لم تكن موجودة إلا بعد أن نزل الروح القدس لكي يوجد الوحدة ويكون من أولئك المؤمنين جماعة واحدة لك أن تسميها بين الله أو جسد المسيح. ولو أنه توجد فروق جوهرية بين هاتين الناحيتين (أي بيت الله وجسد المسيح)، غير أن حضور الروح القدس هو الذي يجعل الكنيسة جسد المسيح أو هيكل الله. والرسول بولس يتكلم عن الكنيسة، في رسالته الأولى لأهل كورنثوس، كمؤسسة بواسطة الروح القدس الحاضر فيها والعامل في وسطها ويسميها في تلك الرسالة جسد المسيح كما رأينا من الآية التي اقتبسناها آنفاً وهي قوله "لأننا جميعاً أيضاً بروح واحد اعتمدنا إلى جسد واحد".
ولا شك أن القارئ يدرك بوضوح ما لهذا الأمر من خطورة، لأن ما يظنه الناس ويتكلمون عنه كالكنيسة غير المنظورة، (ولو أن الكتاب المقدس لم يستعمل هذا الاصطلاح مطلقاً) كان موجوداً فعلاً قبل الكنيسة وفي الواقع أن الرب عندما أسس الكنيسة كان قد وضع حداً للحالة الغير منظورة. نحن نعلم أنه في أزمنة العهد القديم كانت لله أمة اعتبرها ودعاها شعبه الخاص، وكان في وسط تلك الأمة أفراد مؤمنون، كما كان بلا شك نظيرهم بين الأمم: فنقرأ مثلاً عن أيوب الذي عاش في العصور الأولى. وفي مواضع كثيرة من الكتاب المقدس نقرأ عن أفراد من الأمم كانوا خارج الرعوية الإسرائيلية ومع ذلك أظهروا الحياة الإلهية فيهم وانتظروا الفادي الآتي. ومع ذلك فما كانت الكنيسة بموجودة، وما كان جمع أولاد الله المتفرقين إلى واحد إلى أن مات المسيح. فقد كان أولاد الله متفرقين ولكن بعد موت المسيح اجتمعوا معاً. ولهذا فإن التلاميذ لم يكونوا فقط معينين للخلاص بل كانوا قد جمعوا فعلاً إلى واحد وهم على الأرض – وهذه هي الكنيسة. ولا ننسى أن "الجماعة" تفترض بالضرورة جمع القديسين إلى جسد واحد منفصل عن سائر الجنس البشري – ومثل هذا الجسد لم يكن موجوداً قبلا. ومن ثم فالكلام عن "الكنيسة" في الأزمنة اليهودية أو العصور الأولى خطأ محض. وامتزاج المؤمنين بمواطنيهم غير المؤمنين (الذين يعبرون عنه بقولهم "الكنيسة الغير المنظورة") كان هو الأمر الذي أنهاه الرب (ولم يبتدئ منه) عندما أخذ "يضم كل يوم إلى الكنيسة الذين يخلصون".
والخطأ الشائع في هذا الموضوع هو القول بأن مجموع الذين يخلصون يكوّن الكنيسة مع أن آية كالتي أوردناها وكثيراً غيرها – يُظهِر عكس هذا القول. فقبل زمان (أع 2) لم يكن "الذين يخلصون" في الكنيسة أما الآن فها هو الرب يأخذهم ويضمهم معاً كل يوم صانعاً منهم جسداً واحداً. ومن هذا يتضح لنا أن "الجماعة" شيء والذين يخلصون هم شيء آخر. على أن الرب لم يترك "الذين يخلصون" ليبقوا في وحداتهم القديمة بل أخذ يبنيهم معاً ويضمهم إلى الكنيسة تدريجياً. ونكرر ما قلناه سابقاً من أن هناك فرقاً بين الذين يخلصون وبين كنيسة الله فالأولون كانوا موجودين في العهد القديم بينما الأخرى لم تكن موجودة على الإطلاق بالمعنى الذي نستخلصه من الكتاب المقدس.
ولا شك أن جماعة إسرائيل كانت موجودة ويدعوها الوحي "جماعة الرب" غير أن هذه الجماعة كانت هي الأمة بأسرها ومجموعة الشعب اليهودي، ومن هذه الأمة نفسها أخذ الرب أول نواة "في الكنيسة". وإذ نزل الروح القدس ليسكن في الذين كانوا موجودين فقد أخذ الرب في جمع الذين آمنوا في يوم الخمسين وما بعده، وضمهم إلى أولئك وهكذا ظلت عملية تكوين الكنيسة سائرة في مجراها. فيتضح لنا إذن أن الحالة الأولى التي أخذت تتلاشى توافق ما يقول الناس عنه "الكنيسة المنظورة والغير المنظورة" فنراهم يقولون عن الأمة اليهودية أنها الكنيسة المنظورة، ولكن ما لنا ولهم، دعهم يسمونها كما راق لفكرهم، وكل الذي أريد أن أؤكد وأشدد فيه على من يخضع لكلمة الله هو أن أفكارهم وكلامهم هذا – الذي يطبقونه على ما يسميه العهد الجديد "كنيسة الله" – تحكم عليه أقوال الكتاب الواضحة الجلية. وما كنت لأشدد النكير في قولي لو أن الكتاب ترك مجالاً للشك في هذا الموضوع. أما إذا كانت حكمة الله واضحة فإنني أحسبها جريمة على المؤمن أن يشك فيها، إذ هو لا يكفيه ألا يعمل كما ينبغي بل يتقدم إلى أردأ إذ يعاون على انتشار الكفر في العالم. فنحن مدينون لله في أن نوطن العزم حيث تتضح كلمته – مدينون في أن نكون راسخي الأقدام مطيعين. فإذا كانت كلمة الله صريحة فيما أُظهرت لنا الكنيسة لأول مرة مكونة بواسطة الاعتماد بالروح القدس الممنوح للمؤمنين – وأخبرتنا أن أولئك المعينين للخلاص (أي الذين يخلصون) قد أُخِذوا من إسرائيل وضموا إلى تلك الجماعة، فإنني لقاء هذه الصراحة الإلهية في الكلمة أقول أن تلك الكنيسة – بحسب اصطلاح العهد الجديد – لم تكن موجودة على الإطلاق قبلاً بحيث أنها احتوت على أناس مخلصين أُخِذوا من اليهود أولاً ومن الأمم بعدئذ (كما نعلم) وأنهما قد جُمِعا معاً في جسد واحد على الأرض وهذا الجسد هو كنيسة الله أو جماعته.
وفي الوقت المناسب أخذ الرب يوسع دائرة العمل: فنرى من (أع 8) أن السامرة قبلت الإنجيل، وأن الروح القدس يُعطى للمؤمنين بالتبعية، ومنه أيضاً نرى أن الخصي الحبشي قد عرف المسيح. وتعقب ذلك حكاية تغيير رسول الأمم العظيم ليكون أصلح شهادة للنعمة وأنفع خادم للكنيسة المتحدة مع المسيح في السماء – وقد دعا نفسه في (كو 1) ليس فقط خادم الإنجيل بل أيضاً خادم الكنيسة التي يتكلم عنها في ذلك الإصحاح باعتبارها جسد المسيح.
- عدد الزيارات: 2738