Skip to main content

هل كانت الأرض يوماً شواشاً؟

القضية الأساسية

لقد تجادل دارسوا الكتاب المقدس المعتدلون المحافظون كثيراً فيما إذا ما كان يجب فهم الخلق الأصلي للسموات والأرض كحادثة في اليوم الأول من الخلق, أو أنها فترة زمنية هائلة يمكن أن تكون قد امتدت بين الخلق الأصلي في تك 1:1 والحالة الـ "خربة وخالية" التي تصفها تك 1: 2. إن معظم المسيحيين يفضلون فكرة فجوة زمنية بين هاتين الآيتين معتقدين أن الأرض الأصلية كانت قد احتلتها النباتات والحيوانات (وربما أيضاً أُُناسٌ قبل آدم) وبسب سقوط الشيطان دمرها الله بواسطة طوفان كوني وغمرتها ظلمة كاملة, وهكذا "صارت" "خربة وخالية". إن الدهور الواسعة المفترضة في الجدول الزمني الجيولولي يُعتقد أنها قد حدثت خلال هذا الفاصل الزمني, ولذلك فإن المستحاثات النبايتة والحيوانية الموجودة في قشرة الأرض حالياً هي بقايا للعالم الكامل المثالي الأصلي الذي يُفترض أنه قد دُمر قبل أيام الخلق الحرفية الستة (أو بالحري أُعيد خلقه) كما يدون في تكوين 1: 3- 31.

لقد قُبلت نظرية الفجوة (أو نظرية إعادة بناء الدمار) بشكل ٍ واسعٍ وسط المسيحيين الإنجيليين، وخاصةً منذ بداية القرن التاسع عشر عندما عمّمَ توماس تشالمرز الاسكتلندي هذا التفسير، ونفترض أن ذلك كان بدافع أن يُؤقْلِمَ رواية الخلق في التكوين مع الفترات الزمنية الفسيحة في تاريخ الأرض بحسب اعتقاد الجيولوجيين القائلين بالتشاكل[187]. لقد تطورت النظرية عام 1876 على يد جورج بمبر ("عصور الأرض الأولى")، ثم انتشرت بشكل هائل واسع في حواشي "كتاب سكوفيلد المقدس الجديد المشوهد" بدأً من عام 1917. وفي عام 1970 نشر آرثر كوستانس, وهو عالم كندي, دفاعاً عن نظرية الفجوة بعنوان "خربة خالية".

إن الفروقات ين نظرية الفجوة والنظرة التقليدية لخلق حديث نسبي للأرض خلال ستة أيام حرفية عميقة وعويصة. بالدرجة الأولى، يجب أن تعيدَ نظريةُ الفجوة تعريفَ أو شرح القول "حَسَنٌ جِدّاً" الوارد في تك 1: 31: ("وَرَأى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً"), لأن آدم قد وُضِع كآخر ما وصل متأخر في عالم كان قد دُمِّرَ لتوه, فكان يسير حرفياً على مقبرة من مليارات المخلوقات (بما فيها الديناصورات) التي لم يمارس أبداً سيادة عليها (تكوين 1: 26). إضافة إلى ذلك، فإن هذا العالم الذي هو "حَسَنٌ جِدّاً" قد صار لتوه ميداناً لكائن ساقط وشرير يُوصَف في الكتاب المقدس بأنه "إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ" (2 كور 4: 4).

وثانياً, تفترض نظرية الفجوة وجود آكلي لحوم وحيوانات أخرى كانت تعيش وتموت ليس فقط قبل آدم, بل حتى قبل سقوط الشيطان. ولكن هل كان للموت أن يخيم في مملكة حيوان في عالم غير خاطئ؟ أفلا يقول الكتاب المقدس أن "الخليقة كانت خاضعةً لعبثية", وأنها كانت "تئنّ وتتمخض" بنتيجة اللعنة في عدن, التي جاءت بعد سقوط آدم (رومية 8: 20-22)؟ لم تكن الطبيعة ولا الشيطان, بل الإنسان الذي خُلِق ليكون ملك الأرض (مز 8, عب 2: 5- 8)؛ ولم يظهر الموت لأول مرة على هذا الكوكب إلى أن رفض الإنسان عن عمد إرادة الله (رومية 5: 12) وعندها فقط سقطت الحيوانات تحت "عبودية الفساد" (رومية 8: 21). ومن هنا, فإن نظرية الفجوة تشكل جدياً حلاً وسطاً بين العقيدة الكتابية القائلة بسيادة الإنسان الأصلية ومبدأ لعنة عدن التي أنـزلها إلهٌ قدوسٌ على الأرض بسبب تمرد الإنسان. 

ثالثاً, بناءً على نظرية الفجوة, إن كانت جميع الحيوانات والنباتات في "العالم الأول" قد دُمرت وتحولت إلى مستحاثات فما كان ليمكن أن تكون لها أية علاقة جينية بالكائنات الحية التي في العالم الحالي, رغم حقيقة أن الغالبية العظمى منها تظهر مطابقة في شكلها للأنواع المعاصرة. على نفس المنوال, أولئك الذي يعتقدون بمستحاثات بشرية في هذه "الفجوة" الزمنية مضطرون إلى الاستنتاج بأن هكذا "أُناس" قبل آدم ما كانوا يتمتعون بحياة أبدية (لأنه من الواضح أنهم قد ماتوا قبل أن تدخل الخطيئة إلى العالم على يد آدم)[188].

رابعاً، لا تفسر نظرية الفجوة حالة " العالم الأصلي الكامل" (التي يفترض معظم المدافعين عن هذه النظرية أنه قد وُجِدَ لعدة ملايين من السنين). ومن هنا, لا يمكننا أن نعرف شيئاً عن ترتيب الأحداث لدى خلق العالم, أو ترتيب ملامحه, أو تارخه, (الذي كما نعلم, يمكن أن يكون قد شكل 99.9% من تاريخ الأرض حتى الآن)؛ إذ تحل الآية الأولى فقط محل كل الأصحاح الأول حول هذا الموضوع الهام. هل سنفترض أن المسيحيين سيتطلعون إلى التشاكل والجيولوجيين النشوئيين لملأ الفراغ قبل تكوين 1: 2؟ ما علاقة هذا بخروج 20: 11 (انظر أيضاً 31: 17)، التي تقول أنه في ستة أيام (وليس قبل اليوم الأول)، "صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالارْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا" (وليس فقط النباتات أو الحيوانات أو الناس)؟

أخيراً, تفترض نظرية الفجوة ضمناً أن طوفان نوح (التي يخصص له موسى ثلاثة أصحاحات كاملة من التكوين) كان بلا مغزى نسبياً من حيث تأثيراته الجيولوجية والهيدروديناميكية, لأن كل التشكيلات الرئيسية الحاوية على مستحاثات كانت قد وضعت بفضل الطوفان المزعوم في تكوين 1: 2 (والذي يُشار إليه أحياناً بطوفان لوسيفورس). من الواضح أن نفس المستحاثات لم تترسب بفضل طوفانين منفصلين خلال فترة زمنية طويلة. ولذلك تطلب نظرية الفجو تقريباً أن يكون طوفان نوح محلياً في إمتداده وتأثيره وذلك لإعطاء تأكيد كامل على الكارثة المزعومة التي سبقت آدم (انظر ويتكمب وموريس, "طوفان التكوين", ص 5- 6). إنه لجدال عقيم القول بأن الرسول بطرس كان يشير إلى كارثة جرت في التكوين 1: 2 عندما كتب: ".... الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ" (2 بطرس 3: 6)، لأنه كان قد أشار لتوه إلى طوفان نوح (2 بطرس 2: 5) وبالكاد سيشير إلى طوفان آخر دون تفسير، وخاصة أن الطوفان الوحيد الذي تحدث عنه الرب يسوع المسيح على الإطلاق كان الطوفان في عصر نوح (انظر متى 24: 37- 39؛ لوقا 17: 27).

من الواضح إذاً أن نظرية الفجوة ليست مجرد انحراف ثانوي عن التفسير التقليدي لرواية الخلق التي في سفر التكوين. ولهذا السبب فإن الأدلة الكتابية التي طُرِحت في الدفاع عنها يجب تفحصها بعناية. لعل نقاط الجدل الأربع الأكثر أهمية في تأييد نظرية الفجوة هي ما يلي: (1) الفعل المترجم إلى "كانت" في تكوين 1: 2 من الأفضل أن يترجم إلى "أصبحت" أو "كانت قد صارت", وهذا يسمح لظهور الفكرة الصعبة الفهم بتغيرٍ في حالة الأرض. (2) العبارة "خَرِبَةً وَخَالِيَةً" لا تظهر في مكانٍ آخر إلا في أشعياء 34: 11 وإرميا 4: 23, وسياق النص في هذه المقاطع يدل بشكل واضح على دينونة ودمار. إضافة إلى ذلك, فإن كلمة "خَرِبَةً " بحد نفسها تحمل عادةً معنى أو دلالة الشر. (3) من غير المحتمل أبداً أن يكون الله, خالق النور, أن يكون قد خلق العالم في ظلمةٍ, هذا التعبير الذي يستخدم عموماً في الكتاب المقدس كرمز للشر. (4) يبدو أن هناك تمييز واضح في الأصحاح الأول من التكوين بين "خلق" و"عمل", وهذا ما يأذن بافتراض أن الكثير من الأشياء المذكورة خلال تكوين 1 قد أُعيد خلقها ببساطة.

[187]- رغم أن نظرية الفجوة قد لاقت دفاعاً وتأييداً متشنجاً بشكل أو بأخر لقرون (انظر التوثق في كتاب أرثر كوستانس: "خربة وخالية", اونتاريو,كندا, 1970), إلا أنه تم نشرها وتعميمها أولاً على يد الدكتور توماس تشالمرز الذي من جامعة إدندبرغ في عام 1814. بهذا الشكل حاول أن يدمج مفاهيم جورجس كوفيير عن مبدأ الكارثة الجيولوجية بإطار الكتاب المقدس. انظر "أعمال توماس تشالمرز في اللاهوت الطبيعي" (غلاسغو: منشورات غولنـز)؛ برنارد رام: "النظرة المسيحية إلى العلم والكتاب المقدس" (غراند رابيدز: منشورات إيردمانـز, 1954), ص 195؛ فرانسيس هابر, "عمر العالم" (بالتيمور: منشورات جونـز هوكينـز، 1959), ص 201؛ إيرك سور, "ملك الدنيا" (غراند رابيدز: منشورات إيردمانـز, 1962)، ص 230.

[188]- لقراءة دفاعات عن الرأي القائل بجنس بشري قبل آدم, انظر غليسون ل. أرشر, "مسح لبداية العهد القديم" (شيكاغو: منشورات مودي, 1974), ص 196- 199؛ وتشارلز بيكر, "اللاهوت التدبيري" (غراند رابيدز: منشورات جامعة غريس الكتابية, 1971), ص 207.

  • عدد الزيارات: 4442