(3) الوسيط في خدمة "غسل الأرجل"
وفي هذه الخدمة أيضاً يظهر هو في صفته كالوسيط أنه كان مزمعاً أن يمضي إلى السماء وقد أكمل العمل الذي أعطي له ليعمل, فإنه رغم أن العمل لم يكن قد أكمل على الصليب بعد إلا أنه في ملء الشعور بحقيقة ذاته استطاع أن يحسبه تم فعلاً. وكمن يعلم أن الآب قد دفع كلُ شيء إلى يديه وإنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي. قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة واتزر بها- كانت الأحجار الكريمة على صدره, إنه لا يفرط في شيء مما لله, لكنه لا يستطيع أن يهبنا نصيباً معه إلا إذا كنا طاهرين حسب تقديره هو. ثم لنلاحظ كلماته إلى بطرس- فالمسألة ليست مجرد "إن كنت لا تغتسل فليس لك معي نصيب", لكن المسألة هي "إن كنت لا أغسلك". فهو عمل لازم وهو الذي يعمله لأجله. –يلزم أن ينحني ليأخذ المنشفة والمغسل وبالمحبة يخدم أعوازنا. قد يعترض بطرس لكن بطرس وغير بطرس ينبغي أن يخضعوا. إن حضنه يضمنا بقوة إلي الله. وتبارك اسمه, إن كانت الأحجار الكريمة على صدره فإن أسماء المؤمنين منقوشة عليها.
ولنسأل أنفسنا هل نحن نذعن لهذا "الغسل"؟ لا تظنوا أيها الأحباء إن المسألة مسألة نفوس ابتعدت عن الله. كذلك لا تظنوا إنه ما دمتم تسلكون حسناً وضمائركم لا تلومكم في شيء, فلا حاجة بكم إلي هذا الغسل. ليس الغسل أمراً نحتاج بصفة مستمرة. نحتاج لأن نكون بين يدي هذا الشخص المبارك, ليس فقط أن نأخذ كلمة الله ونحكم على ما هو خطأ فينا, بل نحتاج بصفة مستمرة أن نضع أنفسنا بين يديه قائلين له "يا رب ربما لست أفطن إلي ما هو خطأ لكننا بلا تحفظ نأتي إليك, لنتعلم منك معنى الطهارة والنقاوة".
هذا هو المعنى أيها الأحباء- معناه الخضوع المطلق والتسليم التام لفعل يديه- وأنا وأنتم لا نكون في الوضع الصحيح- لا نكون مؤهلين للشركة معه إذا وجد فينا أقل تحفظ إن كان لسان حالنا يقول للرب "اغسل مني هذه البقعة فقط" فهذا ليس معناه الغسل المطلوب- الغسل معناه أننا بلا تحفظ نرفع قلوبنا قائلين "اختبرني يا الله... امتحني... افحص داخلي (كليتاي والقلب). انظر إن كان فيّ طريق باطل واهدني طريقاً أبدياً (مز139: 23).
فهل نحن –أنت وأنا- في علاقتنا بالرب يسوع نتعامل هكذا بدون شرط وبلا تحفظ من جانبنا؟ هل نحن على استعداد لأن يعرفنا الرب شرورنا مهما كانت هذه الشرور؟ هل نسأله أن يختبرنا ويفحصنا أي يفتش مخادع البطن فينا؟ أم إننا نكتفي بأن نقول قدامه "لسنا نشعر بشيء معين فينا أو على ضمائرنا"؟ هل ندرب أنفسنا لكي يكون لنا ضمير صالح من نحو الله والناس؟ هل نحن نشعر بالفشل في الحكم على الأشياء والأشخاص؟ ولذلك نلجأ إلى ذاك الذي عيناه كلهيب نار وأطهر من أن تنظرا الشر, سائلين منه أن ينظر إن كان فينا طريق لا يرضيه ولا يرضى عليه؟
لأنه ينبغي أن نُنقى وفقاً لتقديره هو لكي تكون لنا شركة معه.
أيها الأحباء إنه من السهل جداً على قلوبنا أن تتسرب من هذه الشركة المباركة (أي أن نفوتها), فلنكن شفوقين على أنفسنا لنكن غيورين على مصلحتنا ولا نقنع بشركة تكون فيها قلوبنا في سلام مع نفسها- قانعة بحالتها, بسبب عدم التدرب.
إن أمسكت يداه بأرجلنا, وشكراً لله, فلأنه يجمل مسؤولية غسلها. له المغسل وله المنشفة ومعهما كل شيء في السماء وعلى الأرض وحتى منذ الآن نستطيع أن تكون لنا معه شركة في وسط عالم مسكين ومسكين جداً يستشري فيه الفساد بالخطية إلى أبعاد سحيقة. ومن منا يفرط في شركة سعيدة ومباركة مثل هذه. نظير أي شيء آخر يمكن أن يعطيه العالم لنا؟
والآن أريد أن أدير التفاتكم إلى هذه الحقيقة وهي أن الاتصال بالله اتصالاً منتظماً في زمان الشعب الأرضي كان على طريق الأوريم والتميم- إن هم طلبوا جواباً من الله عن أمر من الأمور أو حكماً من جهة مسألة, فعن طريق كاهن له أوريم وتميم وهو الذي يذهب ويسأل الله.
فكيف نطبق هذا حالياً؟ قبل كل شيء هذا ينطبق طبعاً على كاهننا العظيم ربنا يسوع المسيح الذي اجتاز السموات. لكن كمبدأ لنا –وهو مبدأ عظيم الأهمية- نستطيع أن نطبقه هكذا: إذا أردنا أن نحصل على جواب إلهي في مسألة ما تخص الجماعة –كنيسة الله على الأرض- فماذا تكون مواصفات هذا الجواب حتى نعتبره جواباً إلهياً؟ بكل تأكيد يتحتم أن يتصف الجواب بهذين الشيئين الذين يتضمنهما الأوريم والتميم. يجب أن يأخذ الله مكانه أولاً وقبل كل شيء, فيجب أن ترى الأحجار الكريمة - الأنوار والكمالات- كلها مع بعضها هناك وثانياً يجب أن ترى على الأحجار أسماء الشعب أيضاً. معنى ذلك أن المحبة –محبة الله لشعبه ينبغي أن تميز هذا الأمر كما تميزه محبتنا لله- والرسول يسأل قائلاً كيف تستطيع أن تحب الله الذي لا تبصره أنت الذي لا تحب أخاك الذي تبصره؟ (1يو4: 20).
هذان هما الشيئان اللذان يميزان كل حكم إلهي- حكم كل كاهن بالأوريم والتميم- فإن كان الله, من الجهة الواحدة نوراً فهو من الجهة الأخرى محبة. وكشركاء الطبيعة الإلهية ينبغي أن نكون عمال بر من الجهة الواحدة ومن الجهة الأخرى نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة (1يو3: 14). وكما أن النور والمحبة واحد في الله مهما بدا أمامنا نحن أنهما اثنان- هكذا لنتأكد أن كل ما ليس من البر ليس من المحبة وكل ما ليس من المحبة ليس من البر.
ربما رسخ في أذهاننا أن كل ما ليس من البر ليس من المحبة وهذا صحيح وهام جداً لأن المحبة الصادقة من نحو أخي لا تتغاضى عن الشر فيه ولا يمكنها أن تتغاضى. إذ كيف لا أهتم بأمر يعطله أو يؤخره ويهين مجد الله في حياته. المحبة لا تفعل هذا. لتكن هذه في عرف الناس اسمها "مشاعر طيبة" لكنها مشاعر طيبة بحسب تقدير الناس ينقصها الصفة الإلهية- مشاعر ليس فيها الله, وإذا ترك الله كل شيء "بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله, إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه" (1يو5: 2). هذا هو المحك. إن المشاعر لا بأس بها لكن المحك ليس هو المشاعر بل الطاعة في حفظ وصايا الله هي محك المحبة وليس غير ذلك.
ولا تكون محبة للأخ إن كنا في طريق إظهارها لا نحفظ وصايا الله. لكن من الجهة الأخرى لسنا نحفظ وصايا الله إن كنا لا نظهر المحبة للأخ. ولا يتصورون أحد أنه يمكن أن يكون هناك بر بدون المحبة. وهذان الشيئان هما فعلاً, في جوهرهما, واحد. فإنه إذا كان الله بين محبته لنا فعلينا أن نبين أن هذه المحبة ما هي إلا البر. فأية شهادة عندنا إن لم تكن هي شهادة للنعمة التي أخذناها؟ وبالحقيقة, نحن لا نشهد لشيء إلا إذا كنا شهوداً للنعمة.
ألا يحدث في بعض الأحيان هذا الخطأ الفادح والخطير؟ إنه لأننا من واجبنا أن نظهر النعمة فإننا أحرار فيما نظهره منها سواء من جهة العيار أو من جهة المقدار- لا أيها الأحباء, ليس الأمر كما لو كان فضلاً نجود به فيما نظهره من نعمة- لا, ليس إظهار النعمة عملاً نتفضل به تكرماً من جانبنا.
انظروا ذلك العبد المديون بمبلغ كبير- عشرة آلاف دينار, لكنه أفلس, وليس عنده ما يوفي- فلجأ إلى سيده ووقع على قدميه وتضرع إليه أن يمهله أجلاً للسداد ولكن سيده تحنن وأعطاه ما أكثر من ذلك لقد أطلقه وسامحه بكل الدين.
ثم انظروا هذا الرجل المسامح بدين هذا مقداره, حالما خرج من عند سيده وجد عبداً رفيقه مديوناً له بمائة دينار- بمبلغ ضئيل نسبياً- فأمسك به, وأحكم قبضته حول عنقه قائلاً له "أوفني ما عليك لي". فوقع العبد على قدميه وتضرع إليه أن يمهله أجلاً للسداد فلم يشأ, ومضى به إلى السجن حتى يدفع الدين. فماذا يفعل سيد هذين العبدين عندما سمع بما حدث؟ إنه قال "أيها العبد الشرير أنا سامحتك بكل ذلك الدين الكبير لأنك طلبت مني ذلك أفما ترحم أنت العبد رفيقك كما فعلت بك أنا؟". وغضب سيده وسلمه للمعذبين, حتى يوفي كل ما عليه من دين.
وما أعظمه درساً أيها الأحباء, إن الذين يأخذون نعمة فإنما من البر أن يظهروها. إنه ليس فضلاً نتكرم به. إنه ليس أكثر من الواجب فنتفضل به, بل هو عمل حسن أن نعمله وإن فشلنا فيه فلن يطالبنا الناس به, لكنه واجب مفروض من حقوق الله. والله سوف يطالب به.
ورغم أن الأمر قد يخص الله مباشرة ورغم أنه صحيح أننا لا نستطيع أن نسامح أو نجامل في ديون هي من حق الله, ينبغي علينا أن لا نعتبر المسألة كما لو كان الله يتساهل معنا فيما لا يجيزه هو نفسه. كذلك لا ننسى, سواء من جهة أنفسنا أو من جهة أحد المؤمنين أخوتنا, إن النعمة والنعمة وحدها هي التي تكسر شوكة الخطية. أما الناموس فهو قوة الخطية (1كو15: 56).
أيها الأحباء. لا تبخسوا الميزان في إحدى كفتيه. وتذكروا أن الكاهن الذي له الأوريم والتميم هو وحده الذي يستطيع أن يعطي الجواب الإلهي. وعند القضاء الحق في أي شيء ينبغي أن يكون الله دائماً أولاً, ولكن في ارتباط وثيق لا تنفصم عراه مع شعبه لأنه يحملهم معاً- تبارك اسمه, وهو الكاهن العظيم الحقيقي, على صدرة القضاء بالبر, كما أنه يضمهم بقوة إلى الأبد, وهو الوسيط بين الله والناس- الإنسان يسوع المسيح.
- عدد الزيارات: 3530