(2) ماذا تعني شفاعة المسيح؟
البعض يسألون أحياناً- والذين لا يسألون إنما يتكلمون في دواخلهم- هذا السؤال: "ما الحاجة إلى شفيع على الإطلاق؟" هل وجود الشفيع يعني أن عمل المسيح ناقص؟ أو هل يمكن أن يكون معناه أن الله الآب ليس لنا بالتمام مثل الله الابن؟ حاشا وألف مرة حاشا أن يكون في الشفاعة هذا المعنى. فماذا تعني الشفاعة إذن؟ إن معناها أنه الوسيط. لقد جُرِّب في كل شيء واستحق أن يُكل بين يديه أمر تسنيد وتعضيد شعبه- كابن على بيته- إن شعب الرب وديعة في رعايته ولأنه صنع كفارة لهم على الصليب فإنه يتمم بقوة حياته, خلاصهم (أي يجعل الحقيقة خلاصهم مثمرة) كالمُقَام من الأموات. أما تذكرون ذلك الإصحاح العجيب السابع عشر من إنجيل يوحنا؟ أما تذكرون كيف يعطينا الرب فيه نموذجا- إن صح القول- لعمله الشفاعي في السماء؟- كيف يتكلم باستمرار عن شعبه كالذين أعطاه الآب إياهم؟ كانوا لك وأعطيتهم لي. "وأيضاً احفظهم في اسمك الذين أعطيتني" وأيضاً مجد ابنك ليُمجدك ابنك أيضاً. إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليُعطي حياة أبدية لكل من أعطيته". فهم قد أعطوا له- وُضعوا في رعايته, كالكفء وأهل الثقة في أن يُحضرهم سالمين كاملين. فكل مسؤولية خلاصهم قد وُضعت عليه هو الذي عمل العمل الكفاري ومضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له.
أيها الأحباء هو الكفء ولقد ارتضى الله به تماماً. لماذا؟ لقد أظهره الله في مواجهة الإنسان وفي مواجهة العالم وفي مواجهة الشيطان قبل أن يُنجز عمله, لقد شهد له- كما في معمودية يوحنا, إذ فتح السموات وأعلن عن مسرته به "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". وماذا حدث بعد ذلك؟ لقد نزل الروح القدس واستقر عليه- ختماً على المصادقة على هذه المسرة. ثم اقتاده الروح إلى البرية لكي "يُجرَّب من إبليس". وكأن الله يقول للشيطان: هذا هو ابني. أنا أعرفه. أنا أثق فيه. أستطيع أن أرهن كل مجدي باطمئنان بين يديه. خذه. جربه. امتحنه بأي امتحان وانظر إن لم يكن هو الجدير بكل مسرتي.
هكذا مضى إلى البرية (على النقيض تماماً لكل ما كان من حول آدم الأول في عدن) مضى ليصوم الأربعين يوماً ليس كما صامها موسى وليس كما صامها إيليا, لمقابلة الله, بل لكي يقابل عدو الناس في ضعف وجوع من أثر الصيام ويُمتَحَن هناك من كل وجه. وهل حصل أن قدم الروح القدس شبيهاً آخر ليجرب من إبليس في أصعب ظروف الحاجة وفي أعمق صور الضعف الإنساني؟.
نعم, لقد وضع الله ثقته في هذا الإنسان الثاني في الظرف العصيب الأعمق جداً من ظروف الإعياء والجوع, وفي أحلك قتام مظلم فوق ذلك الصليب الرهيب (آخر صورة من صور إخلاء نفسه). هناك تركه الله في ضعف شديد لا مثيل له وقد استأمنه على كل ما هو الله في خليقته إلى أبد الآبدين- علق عليه كل محبته وكل بره- كل بركة الإنسان, وكل شيء, علق الكل, بكل مالها جميعاً من وزن وضغط عليه. نعم استطاع الله أن يضعها عليه هناك وتركها له في عهدته بكل يقين الثقة بأن شيئاً واحداً مما استأمنه عليه لن يفقد. والآن هلاّ يكمل ما ابتدأه؟ هلاّ يُخَلِّص, كرئيس الخلاص, إلى التمام جميع الذين يتقدمون به إلى الله؟ نعم إنه كالكاهن المُقام هو يحمل مسؤولية الشعب الذين تعهدهم واُستُأمن عليهم. كل شيء سيكون في سلطانه وكل شيء سيكون له. هذا الكاهن الوسيط يقول "لست أسأل الآب من أجلكم لأن الآب نفسه يحبكم". إننا لم نأت إليه لكي يذهب لأجلنا إلى الله, كما لو كنا نحن لا نستطيع أن نتقدم إليه. لا ليس هذا هو معنى وساطته بل إن وساطته معناها أنه المتعهد الضامن الوصول بنا إلى كمال نتائج عمله المبارك الذي أسسه على الصليب. ومهما كان من أمر ظروفنا ومسلكنا هنا فهو هناك الواحد الوحيد عند الله وهو نفسه الله أيضاً. ومن الجهة الأخرى مع الإنسان هو أيضاً إنسان. هو الذي, كالكاهن أو الشفيع يتقدم إلى الله, وكالحافظ الأمين على شعبه يتعهد كل أعوازهم. هو يقدر أن يأخذ "المغسل" "والمنشفة" ليغسل أرجل خاصته لكي يكون لهم نصيب معه.
- عدد الزيارات: 3039