خدمة الوسيط بالاتضاع والطاعة
هكذا الأسماء على صدرة القضاء والصدرة على قلب رئيس الكهنة. وما أمجد ذلك الشخص الذي فيه يتحقق كل هذا- الذي فيه يلتقي اللاهوت والناسوت في واحد- عمانوئيل- في شخصه الله معنا- وانظروا أيها الأحباء, فإنه على قدر ما للصليب من عظمة رائعة (وبكل تأكيد في الصليب أعظم ما تكون العظمة وأروع ما تكون الروعة) لكننا مع ذلك نخطئ لو تصورنا أن ذلك الجسد الذي هيئ له, إنما هيئ لكي يذهب فيه إلى الصليب فقط, لا. أنه أخذ الجسد لكي يحتفظ به إلى أبد الآبدين.أنه أخذه ويتساوى أخذه مع الأذن المثقوبة للعبد العبراني والتي معناها الخدمة إلى الأبد. حين كان في طاقته أن يخرج حراً (خر21: 1-6) تفكروا, أيها الأحباء, في ذاك الذي تطلع إلينا من علاه عندما كنا ضالين كل واحد في طريقه, معاندين إرادة الله حاسبين نيره الهين قيداً علينا وعبودية لنا, فتنازل وسلك طريق الاتضاع والطاعة وخدمنا تلك الخدمة التي استخففنا بها, ولم يرجع للوراء, صائراً "رئيس الإيمان ومكمله" "متعلماً الطاعة- وهو الذي له الكل- مما تألم به" (عب5: 8).
لم يكن طريقه في عالم جميل مرتب ومزين, كما كان عالم آدم, بل في عالم كئيب بقدر ما تستطيع خطية آدم وخطايانا أن تنشر فيه من كآبة وقبح. في مثل هذا العالم اختار أن يستعلن في وسط كل تعاسته كم كانت مباركة إرادة الله أبيه.
تأملوه وهو يخدم حاجة نفس مسكينة كانت عند بئر سوخار, حين كان جوعاناً وعطشاناً ولكنه خدمها وشيع هو بخدمته لها. "لي طعام لآكل لستم تعرفونه" هكذا قال لتلاميذه عندما قدموا له الطعام الذي أحضروه ليأكل. إنه شبع. في الجوع, وفي العطش وفي التعب وفي الخدمة المتواضعة لنفس مسكينة خاطئة, وجد ابن الإنسان شبعه وفرحه في مشيئة أبيه. وكما كان, لم يزل هو هو, مهما اختلف مناخ خدمته- "يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد". نعم أيها الأحباء كلما تأملنا فيه نجد كيف اقترن في شخصه, الله والإنسان اقتراناً أبدياً لا ينفصم. كان على الصليب "رجل رفقة الله" "استيقظ يا سيف علي.. رجل رفقتي يقول رب الجنود" (زك13: 7) هذا من الجهة الواحدة, ومن الجهة الأخرى بعد إكمال العمل الكفاري مسحه الله بزيت الابتهاج أكثر من شركائه (عبرانيين1: 9).
يا لها من إنسانية عظيمة وكريمة لذلك الشخص الذي استطاع الرسول أن يقول عنه "الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا" (1يو1: 1). تأملوا هذه الكلمات التي تلاشت فيها الأبعاد والمسافات وأصبح ذلك الشخص المبارك قريباً باستمرار. الذي سمعناه ورأيناه وشاهدناه ولمسته أيدينا هو الله. هو "الكائن فوق الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد". هو الله الذي لم ينظره أحد قط. الذي لم يره أحد ولا يقدر أن يراه. الساكن في نور لا يُدنى منه (1تي6: 16). هذا ما يعطي إنسانيته قيمتها الغير المحدودة- إنسانيته التي أعطانا في محبته غير المتغيرة أن نسمعها وننظرها ونلمسها بأيدينا.
فإذا كان هو الله- في اللاهوت عند الله, وهو الله لأجل الإنسان, هو أيضاً الإنسان لأجل الله- الإنسان الكامل الإنسانية الذي فيه الإنسانية تجد وتحتل مكانها المقرر لها إلى أبد الآبدين. وهذا هو فكر الله من الأزل. فالسؤال "ما هو الإنسان حتى تذكره؟" (مز84, عب2) قد وجد الجواب في ذلك الإنسان "الذي وُضع قليلاً عن الملائكة" وفي لقبه المسمى به في الخطاب إلى كنيسة لاودكية" بداءة خليقة الله". إنه الوسيط.
الوسيط فوق الصليب
يواجه عاصف الدينونة
لكن تأملوا كيف أن هذا يتمشى مع عمله. لقد تأملناه قليلاً في سلوكه هنا فماذا كان هذا الشخص فوق الصليب؟ هناك أيها الأحباء نجد عاصف الدينونة الذي أشرنا إليه آنفاً- الغضب العاصف, الذي بعد أن عبر, رأينا أشعة المجد الإلهي بألوانها المتعددة. لقد كان قوس قزح- كما نعلم علامة عهد الله مع الخليقة الجديدة- عهداً أبدياً- فالخطية لن تكون مصدر تعب لأن الله تمجد من جهتها وإذ تمجد أصبح صاحب السيادة المطلقة عليها- وأقول "السادة" ليس بمعنى أنه السيد ومن حقوقه أن يفعل هذا, لكننا نقصد سيادته في الصلاح والإحسان بالنعمة- له مطلق السلطان في أن يظهر نعمته إلى أقصى مداها.
- عدد الزيارات: 2489