الفصل السادس: سفر صموئيل الثاني
قد مُسح داود ثلاث مرات: أولاً مُسح في بيت أبيه، ثانياً مُسح ملكاً على يهوذا، ثالثاً مُسح ملكاً على إسرائيل. أما الله فقد مسح يسوع الناصري بدهن الابتهاج: إنه ملك الملوك ورب الأرباب. ولكن كما أن اباه داود كان ملكاً منفياً في مدة حكم شاول هكذا المسيح هو اليوم مرفوض من العالم. ورئيس هذا العالم – أي الشيطان – يملك قلوب الناس.
ولكن أتى يوم اجتمع فيه يهوذا حول داود وتوّجوه ملكاً في حبرون. "حلَّ الروح على عماساي رأس الثوالث فقال لك نحن يا داود ومعك نحن يا ابن يسي ... " (2 صمو 2: 4؛ أخبار الأيام الأول 12: 18). وأنه ليوم بهجة وسرور حينما يسلم المؤمن قلبه تسليم الطاعة والأمانة للرب يسوع قائلاً: لك أنا يا يسوع ومعك أنا يا ابن الله "أنت هو ملكي" (مز 44: 4).
"وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف" (2 صم 3: 1) إلى أن قال أخيراً أبنير لشيوخ إسرائيل "كنتم منذ أمس وما قبله تطلبون داود ليكون ملكاً عليكم. فالآن افعلوا. لأن الرب كلم داود قائلاً إني بيد داود عبدي أخلص شعبي إسرائيل من يد الفلسطينيين ومن أيدي جميع أعدائهم". وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود إلى حبرون وتكلموا قائلين هوذا عظمك ولحمك نحن ... ومسحوا داود ملكاً على إسرائيل" (5: 1 – 3). "فإنك تجعل عليك ملكاً الذي يختاره الرب إلهك. من وسط إخوتك تجعل عليك ملكاً. لا يحلّ لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبياً ليس هو أخاك" (تث 17: 15). "الملك قريب إليّ" (2 صم 19: 42). يشبه إخوته في كل شيء" (عب 2: 17). هنا نرى أسباط الشعب قد اتفقوا على مبايعة داود ملكاً عليهم. فما أشبه ذلك باتفاق المؤمنين وإجماع كلمتهم على تتويج يسوع ملكاً عليهم وعقدهم النية على الولاء والطاعة له.
وعد الله شعبه المختار أن يخلصهم من يد جميع أعدائهم بواسطة داود ملكهم. وهذا ما تم، فإنه منذ انتصر على جليات الجبار إلى نهاية أيامه وهو ينتقل من انتصار إلى انتصار حتى عظم إسرائيل جداً في مدة حكمه. وهكذا المسيح غلب إبليس الجبار العظيم. "بلا خوف منقذين من أيدي أعدائنا نعبده بقداسة وبر قدامه جميع أيام حياتنا". لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه". "لنمو رياسته وللسلام لا نهاية" (أش 9: 7).
"وأخذ داود حصن صهيون": ذلك الحصن يرمز به إلى القلب. فحالما نسلم قلوبنا تماماً للمسيح يبني أساس ملكه. ولنا في معاملة داود لمفيبوشت مثال لنعمة ملكنا علينا وتقريبه لنا كما يقرب الأب أولاده، لأن داود أتي بمفيبوشت إلى بيته واعتبره ابناً له وكان يجلسه معه على مائدته. وكذلك يسوع ملكنا يجلسنا على مائدته ويقول "كلوا أيها الأصحاب. اشربوا .... أيها الأحباء". وهو مع ذلك طعامنا السماوي حيث يقول "الخبز الذي أعطيكم هو جسدي" "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق".
خطية داود: لا نجد بين الرجال الذي يرمزون إلى المسيح من هو كامل في التشبه به، بل الكل دونه؛ حتى داود نفسه لم يكن رمزاً كاملاً. وهنا يأتي بنا المقام إلى ذكر خطية داود العظيمة فنقول: إننا لا ندري كيف تصدر من داود هذه الخطية العظيمة ويزكيه الله قائلاً "وجدت داود رجلاً حسب قلبي". نقول إن داود له سجية واحدة لم تتغير كل أيام حياته، تميزه عن كثيرين من بني جنسه وترفعه إلى منـزلة راقية، وتلك السجية هي اتكاله الكلي على الله وثقته الكاملة فيه. فكان من هذا القبيل عكس شاول على خط مستقيم. وكان له حب بل شغف عظيم بأن يبني الهيكل، لكن الله لم يحسبه أهلاً لهذه الخدمة لأنه كان رجل حرب، فامتثل أمر ربه بالشكر. ولما بكّته ناثان على خطيته بلهجة شديدة، حال كونه ملكاً مطلق التصرف، تواضع أمام النبي واعترف بخطيته وندم من أعماق قلبه ندامة بالغة الحد. ويدل على ندامته العظمى مزمور 51 الذي ما زال مثالاً لاعتراف المعترفين وتوبة التائبين في كل زمان ومكان، والذي يصف فيه داود حالة قلبه المرة بعبارات تذيب الحجارة وتلين الحديد بقوله إن قلبه المنسحق ونفسه المكسورة هما الذبيحة التي يقدمها للرب إلهه، وبقوله إن القلب المنسحق لا يحتقره الله. وإن كان الله قدوساً وساكناً في نور لا يدنى منه غير أنه يتنازل إلى حد مدهش بحيث يسكن في القلب المنسحق؛ وعلى ذلك قول أشعياء النبي "لأنه هكذا قال العلي المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه. في الموقع المرتفع المقدس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين" (أش 57: 15).
إن الكتاب المقدس لا يلقي ستاراً على الخطية مهما عظمت أو صغرت. وهنا رجل من أفضل الرجال وأمثل الذين اشتهروا بأمانتهم وثقتهم بالله أخطأ خطية فلم يسكت عنها الكتاب المقدس إكراماً لمقامه ورعايةً لشرفه. واعلم أن خطية داود لم تكن بنت يومها بل دخل الشر في قلبه بالتدريج حتى بلغ منه هذا المبلغ المحزن. ومن خطاياه التي تدرج فيها تعداد زوجاته، ومكوثه في أورشليم زمناً طويلاً في حين كان يجب عليه أن يخرج إلى ساحة الحرب. وهذا ما يحصل في كل ارتداد. فإنه يبتدئ بمسائل يظهر أنها بسيطة ولكنها إن لم تستدرك تؤدي إلى السقوط الفظيع. أخطأ داود بحزن ولكنه تاب، وصدق وأخلص في توبته. وقد محى الله خطيته حسب غنى رحمته، غير أنه لم يمحُ نتائجها فسببت لبيت داود أتعاباً وبلايا توجب أقصى الحزن والأسف.
العصيان: إن هرب أبشالوم بعد أن قتل أخاه يمثل شرور النفس البعيدة عن الله. ونرى في داود مثالاً لحزن العزة الإلهية على الخطاة "بكى الملك ... بكاءً عظيماً ... وناح داود على ابنه الأيام كلها ... وكان داو يتوق إلى الخروج إلى أبشالوم". ولكلمات المرأة التقوعية مع الملك معنى روحي حسن. قالت "لا ينـزع الله نفساً بل يفكر أفكاراً حتى لا يطرد عنه منفيه" (2 صم 14: 14) "يترأف عليه ويقول أُطلقه عن الهبوط إلى الحفرة قد وجدتُ فدية" (أي 33: 24)
إن الملك أوصى بالخير على أبشالوم حتى وهو في حالة العصيان والتمرد عليه حيث يقول "ترفقوا لي بالفتى أبشالوم". بمثل هذا الاحتمال واللطف يعامل الله الخطاة. ولما بلغه خبر موته "انـزعج ... وكان يبكي ويقول هكذا وهو يتمشى يا ابني أبشالوم يا ابني يا ابني أبشالوم يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم ابني يا ابني"! تمنى داود أن يموت عن العاصي لكنه لم يقدر أن يفعل ذلك. وهنا تتجه أفكارنا إلى ذلك الذي لم يتمن فقط أن يموت عن الخطاة بل مات عنا فعلاً. مات "البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلى الله".
الولاء والإخلاص للملك: لنا في منفى داود مرة أخرى مثال لرفض المخلص. إن الأسوار الواقعة شمالي أورشليم محاطة بأخدود وهو وادي قدرون. فلما طارده الثوار القائمون بزعامة ابنه أبشالوم لعله خرج من الباب الشرقي (وهو في الغالب الباب المعروف الآن بباب ماري أسطفانونس لمناسبة استشهاده في تلك البقعة) ونـزل منه إلى منحدر دائر من الصخر حتى بلغ إلى الناحية الأخرى من الوادي. ولم يخرج الملك وحده بل رافقته طائفة من خدامه الأمناء، وتقدمه ستمئة رجل من أحبابه الفلسطينيين. والمظنون أنه قد اكتسب صداقتهم في مدة إقامته بينهم منذ ثلاثين سنة. فلما حلَّت الشدة التفوا حوله ليفدوه بأنفسهم. ولما عبروا نهر الأردن طلب داود من أتاي الحثي أن يرجع من ورائه وتوسل إليه فلم يقبل وأصر على اتباعه ومرافقته حتى الموت. فلما علم داود بمقدار إخلاصه سمح له بأن يتبعه واللفيف الذي معه بما فيهم العائلة والأولاد. فكان منظرهم، وهم ينحدون أو يصعدون، مؤثراً للغاية. فكأن مصيبة داود شملتهم كلهم واشتركوا معه في منفاه. ولما تهيأوا للقتال أراد داود أن يقاتل معهم فمنعوه مخافة أن يلحقه مكروه فيفشلون. وقالوا له: إن مات نصفنا في الحرب وأنت حي تمدنا برجال جدد حتى ننتصر. أنت خير من عشرة آلاف جندي.
بعد هذه الوقائع بنحو ألف سنة تمثّلَ هذا الدور بشكل عجيب، وذلك أن ملكاً آخر على إسرائيل قد رُفض فخرج من باب أورشليم وانحدر إلى الوادي ثم ارتقى معارج جبل الزيتون كما حدث لداود. غير أنه عوض جماهير الأبطال رافقته فئة صغيرة حقيرة تعد على الأصابع، والثلاثة المتقدمون منهم لم يقدروا أن يسهروا معه ليلة واحدة في جهاده المريع: " .. قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد". ثم إن رفقاء داود بلغ منهم الحماس والنخوة أن منعوه عن الحرب وعرضوا أنفسهم للخطر للدفاع عنه، أما أصحاب المسيح أي التلاميذ فحينما قبض عليه العسكر تخلوا عنه وتركوه ومضوا. والنتيجة أن ذلك البطل العظيم الذي هو بالحقيقة أفضل من عشرة آلاف رجل بذل للموت نفسه فدية للعصاة من جهة وللذين خذلوه من جهة أخرى.
وقد مضى الآن على المسيح نحو ألفي سنة من تاريخ هذه الحوادث ولا يزال مرفوضاً من العالم. لدينا فرصة ذهبية اليوم لإبهاج قلبه مظهرين له الإخلاص كما أظهر أتاي ولاءه لداود. إنه افتدانا بدمه، وغرضه من ذلك أن يستميل قلوبنا نحوه في هذا العالم ويشاطرنا مجده في العالم الآتي.
إن حوشاي الأركي وصادوق وأبياثار مثلوا بين يدي الملك في وسط الفتنة القائمة عليه. وهكذا يوجد في العالم – وإن لم يكونوا من أهله – سفراء للمسيح في أرض الأعداء أما شمعي الذي سب داود في زمن رفضه فيمثل الذين عصوا على المسيح وأنغضوا رؤوسهم استهزاء به.
أشار أخيتوفل على أبشالوم وقال "اضرب الملك وحده وأرد جميع الشعب إليك" "اضرب الراعي فتتبدد الخراف". يسوع راعينا "مضروب من الله" من أجلنا. وعبر الملك نهر الأردن، نهر الموت.
عودة الملك: لنا في عودة داود إلى مدينة صهيون مثال ظاهر لرجوع المسيح "فالآن لماذا أنتم ساكتون عن إرجاع الملك". فلما علم الملك بذلك أرسل كلمة ينشط بها الشيوخ "فاستمال قلوب جميع رجال يهوذا كرجل واحد فأرسلوا إلى الملك قائلين: ارجع أنت وجميع عبيدك".
"آمين. تعال أيها الرب يسوع". تبعاً للعادات الشرقية تقدم رجال يهوذا وعبروا النهر لاستقبال الملك ورجعوا معه إلى أورشليم وازدادت جماهير الشعب في الطريق كلما اقترب إلى المدينة. سينادي يوماً ما ببوق عظيم "هوذا العريس مقبل فاخرجن للقائه" "فالأموات في المسيح سيقومون أولاً" والقديسون الذين سيكونون أحياء على الأرض في ذلك اليوم يخطفون جميعاً معهم لملاقاة الرب في الهواء. إن ملكنا وضع هذه الحقيقة نصب أعيننا وحرضنا على أن ننتظر قدومه بفرح. إن هذا لم يحملنا على الأمانة "ها أنا آتي سريعاً وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله" كما أنه يشجعنا على أن نعيش بالقداسة (تي 2: 1 – 14).
بشارة للبائسين: إن أبطال داود الأقوياء حين خرجوا والتفوا حول داود حينما كان هارباً من وجه شاول الملك كانوا أشراراً إلا أنهم تغيروا عن حالتهم التعيسة بمعاشرتهم إياه وخضوعهم لأمره. وصاروا أبطالاً قادرين على ضبط إرادتهم، ذوي نفوس شريفة ومقاصد صالحة متتبعين خطوات رئيسهم المحبوب "واجتمع إليه كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مُرِّ النفس فكان عليهم رئيساً" (1 صم 22: 2). "هذا الإنسان يقبل خطاة". يا للإنجيل المجيد الذي عهد به إلينا! فإنه يتناول أدنى الناس مقاماً وأشقاهم حالاً ويخلقهم خلقاً جديداً قوماً صالحين أفاضل بواسطة قوة الصليب القادر على تغيير القلوب وتحويل المقاصد.
- عدد الزيارات: 7154