الفصل السابع: سفر الملوك الأول
نحتاج إلى سليمان الملك المحفوف بالمجد والسلام لنقدم مثالاً كاملاً عن المسيح كملك. قال الرب لداود "هوذا يولد لك ابن يكون صاحب راحة وأريحه من جميع أعدائه حواليه لأن اسمه يكون سليمان فاجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه" (1 أي 22: 9). مُلكُ سليمان الهادئ نتيجة انتصارات داود وهكذا سلام ملك المسيح على قلوبنا، الذي نتمتع به اليوم، إنما هو نتيجة حروبه التي خاضها ثم أحرز النصر الكامل. "ملكوت الله بر وسلام وفرح في الروح القدس".
الهيكل: إن المجد الذي أحرزه سليمان في مدة حكمه ينسب إلى بنيانه الهيكل كأن الله أقامه ملكاً لهذه الغاية. قال داود "ومن كل بنيّ لأن الرب أعطاني بنين كثيرين إنما اختار سليمان ابني ليجلس على كرسي مملكة الرب على إسرائيل. وقال لي أن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري لأني اخترتُه لي ابناً وأنا أكون له أباً ... انظر الآن لأن الرب قد اختارك لتبني بيتاً للمقَدِس فتشدّد واعمل" (1 أخبار الأيام 28: 5 – 10).
سليمان في كل مجده: حكمة سليمان مثال لحكمة المسيح المذَّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم.
مزمور 72: مزمور لسليمان يصف مجد مملكته ويبلغ نهاية كمالها في مملكة من هو أعظم من سليمان، الذي سيملك بالحقيقة من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. ولو أن مدة ملك المسيح على الأرض لم تأت بعد فإننا لا نـزال نرى تتمة الأنباء الواردة في هذا المزمور متحققة اليوم في ملك المسيح المنتشر في قسم عظيم من المعمور على قلوب المؤمنين به. قال سليمان لحيرام ملك صور "والآن فقد أراحني الرب إلهي من كل الجهات فلا يوجد خصم ولا حادثة شر" (1 مل 5: 4). وجلال مملكته ومجدها مشار إليهما في سفر الملوك الأول ص (4: 21 – 34) "وكان سليمان متسلطاً على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر. كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته ... وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كلُّ واحد تحت كرمته وتحت تينته ... "
ملكة سبأ: إن ربنا نفسه استلفت الأنظار إلى الفرق العظيم بين هذه الملكة التي أتت من أقاصي الأرض لتنظر حكمة سليمان وأهل زمانه الذي لم يبالوا به حال كونه أعظم من سليمان. وفي زيارة ملكة سبأ لسليمان مثال جميل لإتيان النفس إلى يسوع وتمتعها به، لأنها أتت من مسافات بعيدة ونحن "الذين كنا قبلاً بعيدين صرنا قريبين بدم المسيح". جاءت إلى سليمان بكل مسألة صعبة لديها وطرحتها عليه وأخبرته بما في قلبها. وهكذا ينبغي لنا أن نأتي إلى المسيح بكل المسائل التي تشغل بالنا وتحرج صدورنا فنجد عنده ما وجدته ملكة سبأ عند سليمان "لم يكن أمر مخفياً عن الملك لم يخبرها به" هكذا المسيح الذي هو لنا "حكمة". لما رأت الملكة حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وغناه العظيم، ونظام مملكته، وسائر أعماله، لم يبق فيها روح إلى أن قالت "صحيحاً كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك. ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي فهوذا النصف لم أُخَبر به. زدت حكمة وصلاحاً على الخبر الذي سمعته. طوبى لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائماً السامعين حكمتك. ليكن مباركاً الرب إلهك الذي سرَّ بك ... إلى الأبد وجعلك ملكاً لتجري حكماً وبراً" (1 مل 10: 6 – 10).
"خبر صحيح". إن بشارة الإنجيل هي الخبر الذي جذبنا من بلاد منفانا البعيدة لنأتي ونرى الملك. وحين نأتي إليه وندنو منه يتجلي لنا مجده وجلاله فنقول مع ملكة سبأ "هوذا النصف لم أخبر به". نجد السعادة والهناء في خدمته كما نجد فيه برهان محبة الله الذي منَّ علينا بهذا الملك الكريم لا لنـزوره أو يزورنا برهة من الزمن ثم نفترق عنه كما افترقت ملكة سبأ عن سليمان بل لنبقى معه إلى ما لا نهاية "وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك". ومثل ذلك يعطينا ملكنا حسب غناه في المجد.
الخيبة: بالأسف نقول إن الخيبة مسطرة على جبين كل امرئ في كل دور من أدوار حياته. وقد سرَت هذه القاعدة على سليمان نفسه فإنه قصر تقصيراً ظاهراً في القيام بوصايا إلهه وسقط في المحرمات التي حرمتها الشريعة على ملوك بني إسرائيل وعلى ذلك قوله: "ولكن لا يكثر له الخيل ولا يرُدُّ الشعب إلى مصر لكي يكثِّر الخيل ... ولا يكثر له نساء لئلا يزيغ قلبه وفضة وذهباً لا يكثر له كثيراً" (تث 17: 16 و 17). سقط سليمان في هذه المناهي الثلاث وعدا ذلك اتخذ زوجاته من بنات الأمم وقد حرمهن الله على ملوك بني إسرائيل لئلا يكنّ شرطاً لهم في عبادة آلهتهم الكاذبة. وقد وقع سليمان في هذا الشرك عينه حيث كتب عنه "وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه" (1 مل 11: 4).
نكبة سليمان: للأسباب المتقدمة أثار الله العداوة في قلوب قوم من الشعب المختار وانتهى الحال بانقسام المملكة إلى قسمين عند موته. لم يخلفه ابنه رحبعام إلا على سبطين فقط وهما يهوذا وبنيامين. وأما بقية الأسباط فملك عليهم خادمه يربعام "وأعطي ابنه (ابن سليمان) سبطاً واحداً ليكون سراج لداود عبدي كل الأيام أمامي في أورشليم المدينة التي اخترتها لنفسي لأضع اسمي فيها" (1 مل 11: 36). والسبط الذي أعطاه الرب لابن سليمان هو سبط بنيامين الذي ظل متحداً مع سبط يهوذا. ثم إن إعطاء السراج لأحد من الناس في مكان ما يراد به تأسيس بيته وذريته في ذلك المكان. وهذا يحملنا على أن نفتكر بأن مدينة أورشليم وضواحيها الشمالية واقعة في قسم بنيامين. ولو كان اشترك هذا السبط مع الأسباط العشرة في شق عصا الطاعة على عرش سليمان لما بقيت المدينة المقدسة على الحالة التي وعد بها الله، أو بعبارة مجازية، لكان قد انطفأ سراجها.
انقسام المملكة: يأتي بعد ذلك تاريخ انقسام مملكة إسرائيل. كان ينبغي أن تكون مملكة واحدة. فانقسامها إلى شطرين يمثل حالة مشهورة وعامة بين الناس ألا وهي اجتهادهم في أن يقسموا قلوبهم بين معبودين، غير أن ذلك محال: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين". من أجل ذلك سارت مملكة إسرائيل على النموذج الذي وضعه لها يربعام بن ناباط وهو عبادة الأصنام واقتفى آثاره كل الملوك الذين قاموا بعده. فما تاريخ مملكة إسرائيل إلا سلسلة من الشرور، لا يرقى الملك منهم على عرش الملك إلا على دم سلفه.
إن الإصحاح 17 من سفر الملوك الثاني يذكر لنا حكاية السبي المشهورة، ويذكر الأسباب التي من أجلها أسلم الله شعبه إلى أيدي أعدائهم. لقد انحطوا إلى أخلاق الأمم وعاداتهم وعباداتهم التي نهاهم الله عنها. كما سبق وهددهم الله به هكذا أصابهم فعلاً. هجروا الرب إلههم وعبدوا الأصنام واسترسلوا في المعاصي والآثام على نحو أعمال الأمم الذين ليست فيهم معرفة الله ولا خطرت مخافته على قلوبهم فسلط عليهم الله ملك آشور فحاربهم وأسرهم في بلاده على وفق الجزاء الذي توعدهم به على يد عبده موسى (انظر تث 29: 24 – 28). "فرذل الرب كل نسل إسرائيل وأذلهم ودفعهم ليد ناهبين حتى طرحهم من أمامه" (2 مل 17: 20).
الأنبياء: قبل وقوع الفشل في مملكة إسرائيل واضمحلال ملكهم بزمن طويل، حول الله مجزى قوته وأعماله من الملوك إلى الأنبياء. ولكن حتى في وسط تلك الأيام المظلمة التي عظم فيها الشر وجد شاهدان لحق الله وتعاليمه المقدسة وهما إيليا وأليشع، مما يدل على أنه بالرغم من كل هذه الخيبة يتقدم الله بملكوته وبره إلى الأمام.
إيليا وأليشع: إن الفرق بين أخلاقهما ورسالتهما يمثل لنا الفرق بين يوحنا المعمدان ومخلصنا. وقد شبّه المخلص يوحنا بإيليا مشيراً إلى إتمام النبوة التي تصرح بوجوب إتيان إيليا أولاً. قال "إيليا قد أتى" وعنى يوحنا المعمدان. دخل إيليا النبي بجبته ومنطقته كفلاح إلى بلاط الملك آخاب بلا خوف ولا تردد وقرع مسامعه بقضاء الله قائلاً "حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه إنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي". إن سرقة قوته يرجع إلى هذه الجملة "الذي وقفت أمامه". أدرك الرجل قوة الشركة مع الله وتأثيرها الشديد في البشر. وخصال إيليا تذكرنا بشجاعة يوحنا المعمدان الذي وبخ هيرودس الملك ولم يخش سلطانه. على جبل الكرمل في وقت إصعاد التقدمة استجاب الله صلاة إيليا بنار من السماء؛ وكم استجاب الله صلواتنا بخلاص باهر عند إصعاد ذبيحة عبادتنا المسائية والسَحرية التي ترمز إلى ذبيحة الصليب!
السابق أو المنادي أو السايس: حالما استجاب الله صلاة نبيه إيليا بخصوص إرسال المطر بعث إيليا خبراً لآخاب يقول له "اشدد وانـزل لئلا يمنعك المطر. وبعد برهة كانت عليه يد الرب فقام بنفسه وشد حقويه وصار يركض أمام عربة آخاب حتى وصل إلى يزرعيل مسافة عشرين ميلاً تقريباً فكان إيليا في هذه الحالة أشبه بالسائس الذي يجري أمام عربات الأمراء والأشراف. وكانت هذه العادة سارية عند اليهود فإن صموئيل أنذر الشعب بأن الملوك الذين يريدونهم أن يملكوا عليهم سيعاملونهم شر معاملة: يأخذون أولادهم خداماً لهم ولخيولهم ويجرون أمام مركباتهم. والذي حمل إيليا على تأدية هذه الخدمة لآخاب هو انه كان مسروراً جداً، أولاً بنصرة الرب إلهه على أنبياء البعل، وثانياً بإرساله المطر في الوقت المناسب. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى كان يريد أن يكرم الملك الذي أصلح علاقته مع الرب إلى حين فركض أمام مركبته ليوضح له الطريق ويبشر بقدومه. أليس في ذلك إيضاح للحقيقة الواردة في الرسالة إلى العبرانيين (6: 20) "حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا ... " الذي قال بتواضعه العجيب أنه في المساء يتمنطق ويتكئهم (شعبه) ويتقدم ويخدمهم. يظهر هنا في هذا المثال أنه سبقنا إلى السماء بلحظة قصيرة من الزمان ليعلن للملأ الأعلى مجيئهم ويستعد لاستقبالهم.
أليشع: كان خادماً لشفاء المرضى ولإسباغ البركات. فكان في هذه الأمور رمزاً إلى المسيح. وإذا تصفحنا تاريخه نجد عبراً ومواعظ عن الحياة المسيحية وخدمة الإنجيل في غاية الإبداع. وذلك أنه بينما كان يحرث أطيان أبيه ومعه الخدام والمواشي وإذا به قد رأى النبي الجلعادي المنفي أقبل نحوه وطرح عليه رداءه، فأدرك مقصوده أنه يدعوه إلى خدمته كأن يصب له ماء ليغسل يديه، وفهم أنه بخدمته يعرض نفسه لخطر الموت. فلم يستح أن يخدمه حالة كونه غنياً والنبي فقيراً ولا هاب الموت. ومع أن هذه الدعوة عرضت عليه بغتة ولم تمكنه الفرصة من التروي فيها ومشاورة أفكاره أو قومه لم يستعف ولم يطلب مهلة بل أجاب النبي على الفور. وقرر في نفسه مرافقته فاستأذن منه أن يودع أهله فودعهم. ثم ذبح فدان بقر وسلق اللحم بأدواتهما وأعطى للخدام فأكلوا. وقصد بهذا العمل أن يظهر لهم أنه لا يعود في الأيام التالية إلى سابق حياته. فإن كان أليشع أجاب دعوة إيليا فحري بنا أن نجيب دعوة الله مهما كلفتنا من التضحية.
- عدد الزيارات: 4172