Skip to main content

الفصل الخامس: سفر صموئيل الأول

إن الانحطاط الذي ابتدأت الإشارة إليه من سفر القضاة قد بلغ أشده في أوائل سفر صموئيل الأول حين أخذ الفلسطينيون تابوت العهد عنوة واستسلمت طائفة الكهنة للشر والإثم. ولنا في قصة ابني عالي الكاهن موعظة مؤثرة للغاية وهي أنه قد يهمل الآباء، حتى الصالحون منهم، تربية أولادهم فتسوء عاقتبهم. وتحرير الخبر هو أنه كان لعالي الكاهن ابنان يباشران الخدمات الكهنوتية، وفي الوقت نفسه يرتكبان جرائم عظيمة. وقد علم أبوهما بحقيقة الحال ولم يردعهما. وقع في هذه الخطية نفس صموئيل البار لأن أولاده لم يقتفوا خطواته بل مالوا إلى المكسب وأخذوا الرشوة وعوّجوا القضاء حتى اتخذ الشعب سوء سلوكهم ذريعة احتجوا بها على صموئيل طالبين أن يقيم عليهم ملكاً ويظهر أن داود نفسه لم يقدر أن يؤدب أولاده في مخافة الرب، ويدل على ذلك أن اثنين من بنيه – أبشالوم وأدوناي – شقّا عليه عصا الطاعة. ويقول الكتاب عن هذا الأخير "ولم يغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا"؟ حقاً إن داود لم يقم بالواجب الذي عليه في تربية ابنه.

صموئيل وشاول وداود هم أبطال سفري صموئيل الأول والثاني.

اسم صموئيل: إن صموئيل رمز إلى المسيح. أشكل فهم هذا الاسم على علماء اليهود إلى عام 1899 حينما التأم مؤتمر علماء اللغات الشرقية في رومية. فقال أحدهم – وهو الأستاذ جسترو (Jastrow) من فلادلفيا – أن لفظة صم في اللسان الأشوري المتقارب إلى اللغة العبرانية تدل على معنى ولد؛ وترجم كلمة صموئيل هكذا "ولد الله". إن حنّة أمه من صميم قلبها قدمت ابنها البكر لله[2].

فصار صموئيل ولد الله من يوم ولدته أمه. وعدا ذلك فإن الترنيمة التي سبحت الله بها عند ولادته كثيرة الشبه بترنيمة مريم أم يسوع. فالوالدتان رأتا نفس الرؤيا ألا وهو خلاص مسيح الرب. قالت حنة "مخاصمو الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض ويعطي عزاً لملكه ويرفع قرن مسيحه" (1 صم 2: 10). وقالت مريم: "صنع قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم ..ز عضد إسرائيل فتاة ليذكر رحمة. كما كلَّم آباءنا. لابراهيم ونسله إلى الأبد" (لوقا 1: 51، 54، 55). وعليه فترنيمة حنة، والاسم الذي سمت به ابنها يشيران كلاهما إلى المسيح. وحنة هي الأم الأولى التي شبهت ابنها بالمسيح.

رب الجنود: هذا الاسم لم يستعمل في أسفار موسى الخمسة. وأول استعماله في 1 صم، ثم يرد ذكره كثيراً، وذلك خاصة في أسفار الأنبياء – 281 مرة. وفي ذلك دليل على أن أسفار موسى الخمسة كتبت قبل أسفار الأنبياء، إذ لو كانت كتبت كلها في وقت واحد لرأيت هذا الاسم سارياً فيها بدل كلمة "الرب" أو "يهوه".

أما كون اسم "رب الجنود" من أسماء المسيح فيظهر من مقابلة هذه الآيات بعضها ببعض (أش 6: 1 – 3 مع يو 12: 41؛ واش 8: 13 و 14 مع 1 بط 2: 5 – 8)

وصموئيل رمز للمسيح لأنه جمع بين الوظائف الثلاث التي للمسيح وهي النبوة والكهنوت والحكم (الملك). ومدارس الأنبياء التي أسسها رمز إلى خدمة المسيح في سكب روحه القدوس على الرسل والمبشرين والمعلمين. وعدا ما ذكر فصموئيل رمز للمسيح في حياته وفي الوساطة بين الله والناس. إن صموئيل من يوم دعاه الرب بل من يوم حبلت به أمه إلى نهاية أجله كان مقرباً عند الله، ذا دالة عنده. كانت حياته حياة شركة مستديمة مع الله. وكأن الله وضعه في مرتبة موسى للتضرع والتشفع ويدل على ذلك قوله "ثم قال الرب لي وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب". وقال صموئيل للأمة العاصية "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكفَّ عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" "يسوع ... حي في كل حين ليشفع فيهم"

يوناثان: لنا مثال آخر للمسيح في شخص يوناثان الذي يمثل إلى أي حد بلغت المحبة والصداقة في قلب حبيبنا السماوي "يوجد محب ألزق من الأخ". يوناثان ابن الملك لم يستنكف أن يتخذ صبياً من رعاة الغنم صديقه الحميم. وهكذا المسيح ابن الله لم يستح أن يدعونا أخوة. "إن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه". وقد أحب يسوع خاصته الذين في العالم المنتهى (يو 13: 1).

يوناثان عقد عهداً أبدياً مع داود (18: 3؛ 20: 15 و 16؛ 23: 18) "خلع يوناثان الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته". وهكذا المسيح خلع عن نفسه ثوب مجده وألبسنا ثياب بره وأعطانا سلاحه الكامل لمحاربة عدونا. قوَّى يوناثان داود "وشدد يده بالله"، وهكذا يقول الله لنا "قوتي في الضعف تكمل". يوناثان يشبه المسيح في الأمثلة التي ذكرناها ومع ذلك فشتّان بين الاثنين! فالأول خاطر بحياته (20: 33) ليصالح أباه مع داود، وأما المسيح فمات ليصالحنا مع الله ويجعل لنا شركة معه في عرش المجد.

الملك الراعي: إن داود كملك وراع يشبه مخلصنا. نقرأ في صموئيل الأول عن استعداده الطويل للملك. فالاثنان ولدا في بيت لحم اليهودية، والاثنان صرفا زمن حداثتهما في معاونة أبويهما في أعمالهما اليومية. إن داود كان يرعى لأبيه قطعان الغنم، ويسوع كان يشتغل مع من يدعى أباه في حرفة النجارة. وفي كثير من مزامير داود ما يذكرنا بزمن رعايته للغنم ومن ذلك قوله "إذا أرى سمواتك عمل أصابعك. القمر والنجوم التي كونتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده" (مزمور 8: 3 و 4) وقوله "السموات تُحدِّث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه" (مزمور 19: 1). واعلم أنه لما جاء ملاك الرب إلى الرعاة وبشرهم بفرح عظيم بولادة المسيح كانوا حينئذ ساهرين على حراستهم حوالي بيت لحم حيث كان داود يرعى قطعان أبيه. ورأوا بغتة نوراً باهراً قلب ليلهم نهاراً، وظهر جمهور من الجند السماوي يسبحون الله قائلين "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة". راقب أولئك الرعاة الصبح في تلك الخلوات الهادئة إلى أن أسعدهم الحظ برؤية ما هو أفضل وأعظم بما لا يقاس. كم كان يشتهي داود أن يحظى في إحدى سهراته برؤية ما رآه الرعاة رفقاؤه ولكنه لم يرَ.

مزمور23: يمكننا أن نسميه مزمور الراعي. يصف فيه داود مبلغ عنايته بقطيعه، تارة يورده إلى ينابيع المياه الصافية وطوراً إلى المروج الخضراء والمراعي الخصيبة، ومرة يسلك به بين شعاب الصخور ومضايق الوديان في برية اليهودية حيث يكون الممر حرجاً ومظلماً حتى في ساعات النهار لارتفاع الصخور القائمة عليه من الجانبين إلى علو ثماني مئة قدم. هناك مواقع الأخطار وموارد العطب؛ هناك تخطف الوحوش فرائسها. فويل ثم ويل للغنم التي تضل وتتخلف عن الراعي في تلك المواضع التي ينعق فوقها غراب البين! أما التي تبقى بين يديه فلا خوف عليها لأنه يدافع عنها بقضيبه فيصد هجمات الوحوش ولو آل به الأمر إلى أن يعرض نفسه للخطر. إن داود أكثر من مرة خاطر بنفسه واستخلص الشاة من بين أنياب الشبل والدب. وكل راع كريم العنصر لا يضن بنفسه عن مكابدة الأخطار في سبيل الاحتفاظ برعيته. وإن علمت ذلك تشعر بما كان يخالج قلب داود من خواطر الثقة والسلام باتخاذه الله راعياً لنفسه حيث يقول "الرب راعي فلا يعوزني شيء". وابن داود يأخذ على عاتقه هذه المهنة المحفوفة بالأخطار حيث يقول "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" ويترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده.

حظيرة الغنم في البلاد الشرقية كناية عن موضع غير مسقوف يحيط به جدار من الآجر أو الحجارة وفي إحدى جهاته مخبأ صغير له فتحة يوصدونها بحجر. وللحظيرة باب خارجي. على أنك لو تأملت تجد الراعي نفسه هو الباب: ففي الليل ينام الراعي في ذلك المدخل لحراسة الغنم، وعند خروجها لمسارحها ورجوعها مساء يقف في مدخل الباب وتمر عليه الغنم واحدة فواحدة لافتقادها ومنع الغريب من الدخول. ويحمل معه بعض الأحيان قصعة ماء ليشرب منها الغنم العطشانة وطاسة زيت يدهن به ما قد يجده من الجروح في غنمه بسبب مرورها في المسالك الوعرة. يظن بعضهم إن داود في أواخر هذا المزمور انتقل من استعارة رعاية الغنم إلى استعارة الوليمة البيتية الخ. والصواب أن موضوع المزمور كله هو عناية الراعي بخرافه.

الراعي والملك متشابهان عند داود وابنه، لأن الملك الحقيقي يعتني بأمته كما يعتني الراعي بقطيعه. لما رأى داود ملاك الرب شاهراً سيفه ليضرب أورشليم قال "أنا هو الذي أخطأ وأساء وأما هؤلاء الخراف فماذا عملوا. فأيها الرب إلهي لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي لا على شعبك لضربهم" (أخبار الأيام الأول 21: 17).

"وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها عبدي داود هو يرعاها وهو يكون لها راعياً (حز 34: 23) هو:

الراعي الصالح في مماته (يو 10: 11 انظر مز 22).

الراعي العظيم في قيامته (عب 13: 20 انظر مز 23)

رئيس الرعاه في المجد (1 بط 5: 4 انظر مز 24)

[2]- التفسير المعتاد لهذا الاسم "مسموع من لله"

  • عدد الزيارات: 5869