أفضلية كهنوت المسيح على كهنوت هرون
اتضح لنا مما سلف أن كهنوت هرون لم يكن إلا ظلاً ورمزاً لكهنوت المسيح، ولذلك فإن كهنوت المسيح أفضل من كهنوت هرون بدرجة لا حد لها، كما يتضح مما يلي:
1-إن كلمة "هرون" معناها مرتفع. وهو من هذه الناحية يرمز إلى ربنا يسوع الذي أقامه الله رئيساً ومخلصاً (أعمال5: 31)، إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات. فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى، ليس في هذا الدهر فقط، بل وفي المستقبل أيضاً" (أفسس1: 21). ولكن هرون المرتفع خضع مرة لرغبة بني إسرائيل الأثيمة، فعمل لهم عجلاً من الذهب لكي يعبدوه، فعرضهم للهزء والدينونة (خروج32: 25)- أما المسيح فعاش كل حياته مرفوع الرأس لا يبالي برغبات الناس وميولهم الدنيوية، فضلاً عن ذلك أعطى المؤمنين الحقيقيين حياة روحية يمكنهم بها أن يتمتعوا بمجد لا نظير له، من الناحيتين الأدبية والأبدية معاً (يوحنا17: 22).
2-لقد كان هرون إنساناً مثلنا، أما المسيح فهو من ذاته ابن الله الوحيد (يوحنا3: 18)، الذي به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان (يوحنا1: 3)، فشتان بين الأول والثاني !! ومن ثم دعي الأول للكهنوت على أساس النعمة وحدها، وذلك بواسطة طقوس وشعائر خاصة لم تكن لها قيمة إلا من الناحية الرمزية. أما المسيح فدعي للكهنوت بسبب استحقاقاته الذاتية كابن الله الأزلي. فمكتوب "وأما كلمة القسم التي بعد الناموس، فتقيم ابناً مكملاً إلى الأبد" (عبرانيين7: 28)، ولذلك تولى كهنوته دون أي طقوس أو شعائر.
ومن ثم إذا كان هرون قد بدا جميلاً في ثياب المجد والبهاء التي كان يرتديها، غير أن جماله هذا ليست له قيمة أمام جمال المسيح، لأنه له المجد هو بهاء مجد الله ورسم جوهره (عبرانيين1: 3). ولذلك قيل عنه بالوحي إن "الجلال والبهاء أمامه. العزة والبهجة في مكانه" (1أيام16: 27). وإنه لا يسع كل من يراه في هيكله، إلا أن يقول "مجداً" له (مزمور29: 9).
3-لقد حصل المسيح على خدمة أفضل من خدمة هرون، بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم، قد تثبت على مواعيد أفضل. ليس كالعهد الذي عمله الله مع اليهود يوم أخرجهم من أرض مصر، واعداً إياهم بوعود أرضية. لأنه تعالى أهملهم عندما قصروا في الثبات في هذا العهد. أما العهد الجديد القائم بوساطة المسيح، فهو عهد النعمة المؤسس على كفارته الثمينة. ومن مميزات هذا العهد أن الله يضع نواميسه في أذهان المؤمنين الحقيقيين، ولا يعود يذكر خطاياهم، أو تعدياتهم فيما بعد (عبرانيين8: 6- 12).
4-تولى هرون خدمة الكهنوت بدون قسم من الله، أما المسيح فتولى كهنوته الذي على رتبة ملكي صادق بقسم منه تعالى. فمكتوب عنه "أقسم[1] الرب ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (عبرانيين7: 21). ولذلك فإن كهنوته لا ينتهي، كما كان ينتهي الكهنوت اللاوي عن أي شخص يموت من المنتسبين إلى هذا الكهنوت أو كما انتهى بالتمام بانتهاء عصر الناموس.
5-إن المسيح طلع من سبط يهوذا، سبط الملك، الذي لم يتكلم عنه موسى بشيء من جهة الكهنوت (عبرانيين7: 14)، ومن ثم فإنه ليس كاهناً فحسب، بل وملكاً أيضاً كما ذكرنا. فضلاً عن ذلك فإن هرون لم يستطع أن يورث كهنوته إلا لأبنائه المولودين منه، لكن المسيح منح امتياز الكهنوت والملك معاً لكل المؤمنين الحقيقيين في كل العصور والبلاد، (رؤيا5: 9- 10، 1بطرس2: 9).
6-تولى هرون (مثل كهنة اليهود عموماً) خدمته الكهنوتية في سن الثلاثين واعزلها في سن الخمسين (عدد4: 29، 35، 43، 47). كما أن هؤلاء الكهنة لتعرضهم للمرض والضعف والسفر والموت، كان أحدهم يحل محل الآخر في خدمته. أما المسيح فلا بدء له ولا نهاية. فضلاً عن ذلك فإنه لعدم تعرضه لهذه الأحداث، يقوم بكهنوته باستمرار وإلى الأبد (عبرانيين7: 25)، دون أن يتطلب الأمر وجود بديل أو معين له في أي وقت من الأوقات. الأمر الذي يبعث إلى قديسيه بكل راحة وعزاء في كل وقت من الأوقات.
7-كان هرون (مثل كهنة اليهود عموماً) يتنجس إذا لمس الأبرص أو الميت (لاويين13: 14)، لأن البرص كان رمزاً إلى لطخة الخطية، والموت كان المظهر العام لعاقبتاها. لكن المسيح عندما كان يلمس هذا أو ذاك لم يكن يتنجس على الإطلاق. وليس هذا فحسب، بل وكان أيضاً بكلمة واحدة يبرئ الأول ويحيي الثاني، لأنه هو المخلص من الخطية ونتائجها.
8-إن هرون وكهنة اليهود عموماً لأنهم خطاة مثل غيرهم من البشر، كانوا يقدمون الذبائح عن أنفسهم كما كانوا يقدمونها عن غيرهم. لكن المسيح لم تكن به خطية على الإطلاق. وليس هذا فحسب، بل وكان أيضاً كاملاً كل الكمال. ولذلك لم يقدم كفارة عن نفسه، بل قدمها عنا نحن الخطاة فحسب. كما أن هرون وكهنة اليهود عموماً كانوا يغتسلون بالماء قبل الدخول إلى القدس لإزالة ما يكون قد علق بهم من القذارة، التي كانت رمزاً إلى الخطية. أما المسيح فلم يكن في حاجة إلى الاغتسال بأي معنى من المعاني، عندما كان يدنو كإنسان من الله، لأنه طاهر كل الطهر.
9-كانت ذبائح هرون حيوانية، يدخل بدمها إلى قدس الأقداس الأرضي مرة في السنة لكي يحصل لليهود، على غفران رمزي لمدة عام (عبرانيين9: 7). أما ذبيحة المسيح فكانت نفسه التي هي أغلى من كل شيء في الوجود. كما أنه لم يدخل بدم نفسه إلى قدس أقداس أرضي مثلهم، بل إلى السماء عينها، فوجد فداء أبدياً حقيقياً لكل الناس في كل العصور.
10-لم يزاول اليهود خدمتهم الكهنوتية إلا بعد التكفير الرمزي عن نفوسهم. أما المسيح فنظراً لأنه بلا عيب من جهة، ولأن كفارته لم تكن عن نفسه بل عنا، لذلك فإنه ولد لكي يكون، كإنسان، كاهناً لله (عبرانيين5: 5)، ومن ثم لا عجب إذا كنا قد شاهدناه يمارس أمامنا خدمته الكهنوتية وهو لا يزال يعلم تلاميذه على الأرض- وصلاته الكهنوتية الواردة في (يوحنا17) خير دليل على ذلك.
11-فضلاً عن ذلك فإن هرون بكل ما كان يقوم به من طقوس وفرائض، لم يكن يسمح له بالدخول إلى قدس القداس الأرضي في كل وقت، بسبب عجزه عن الدنو من الله واحتجاب الله عنه وعن غيره من البشر، إذ أن دم الحيوانات الطاهرة جميعاً لم يستطع أن يستر خطاياهم أو يؤهلهم للتوافق معه تعالى. كما أنه في يوم الكفارة، الذي كان يسمح له بالدخول فيه إلى هذا المكان، كان من الواجب أن يغشى على عرش الرحمة بالبخور لئلا يموت. فضلاً عن ذلك لم يكن يسمح له بالجلوس هناك على الإطلاق- أما المسيح فيقيم في الأقداس السماوية في كل حين دون أي حجاب بينه وبين الله. كما أنه لا يقوم بخدمته الكهنوتية هناك وهو واقف، بل وهو جالس (عبرانيين10: 12). ولذلك لم يدع المسيح "رئيس كهنة" فحسب، مثل هرون أو غيره، بل دعي "رئيس كهنة عظيم" (عبرانيين4: 14).
12-أخيراً نقول إنه بعد تكفير هرون عن نفسه، "بارك" الشعب ثم دخل مع موسى إلى خيمة الاجتماع، بينما ظل الشعب ينتظر خروجهما. وبعد فترة من الزمن خرجا معاً وباركا الشعب، فتراءى مجد الرب له (لاويين9: 22- 23)-وبالرجوع إلى العهد الجديد، نرى أن المسيح بعد ما صنع الفداء الكريم، رفع يديه وبارك أتباعه، وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء (لوقا24: 50- 51)، أي أنه كرئيس الكهنة، صعد عنهم إلى السماء ويداه مرفوعتان بالبركة عليهم. وفي الوقت المعين لعودته إلى العالم. وحينئذ سيعود إليه كرئيس الكهنة فحسب، بل والملك أيضاً (مرموزاً إليه في ذلك بخروج هرون وموسى معاً من خيمة الاجتماع) لكي يبارك كل الساكنين فيه، لاسيما الأتقياء الذين يتوقعون ظهوره (إشعياء9: 6و 7، إرميا23: 5، دانيال7: 13).
ومع كل يجب ألا يغيب عنا، أن بركة هرون مهما كان شأنها كانت بركة أرضية، محدودة بحدود زمنية ومكانية. أما بركات المسيح لنا نحن المؤمنين في عهد النعمة، فهي بركات روحية ليس لها مثل هذه الحدود، لأنها مؤسسة على دمه الكريم الذي تفوق قيمته كل قيمة في الوجود. ولذلك إذا كان هرون لم يستطع أن يقول لإسرائيل أكثر من "يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً" (عدد6: 24و 25)، فإن الله باركنا في المسيح بكل بركة روحية في السماويات (أفسس1: 3). فضلاً عن ذلك فإنه لم يمنحنا سلاماً فقط، بل منحنا سلامه الشخصي (يوحنا14) الذي يفوق كل عقل (فيليبي4: 7، يوحنا14: 27)- هذا السلام الذي لا تؤثر عليه أي قوة في الوجود، بل يتدفق إلينا باستمرار من عرش الله، كنهر صاف في كل حين. أما عن بركته التي سيأتي بها عند مجيئه الثاني، فليست لفريق خاص من الناس بل إنها لجميع الشعوب دون استثناء، وهي بركة، يعجز القلم عن وصفها، كما سيتضح من الباب التالي- ومن ثم إذا كانت وظيفة الكهنوت هي التي خلعت الكرامة عن هرون، فإن المسيح هو الذي خلع الكرامة على هذه الوظيفة، لأنه أسمى منها بما لا يقاس.
مما تقدم يتضح لنا أن كهنوت اليهود لعدم كماله، أزاله الله من الوجود. فقد قال الرسول "فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال... ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملكي صادق، ولا يقال على رتبة هرون" (عبرانيين7: 11). وإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك مجال لتقليد كهنوت هرون بأي شكل من الأشكال مثلما يفعل بعض المسيحيين، كما أنه ليس هناك مجال للظن بأنه يمكن أن يقوم بالخدمة الكهنوتية التي تقربنا إلى الله في الوقت الحاضر شخص غير المسيح.
- عدد الزيارات: 3858