من جهة مهمة الدخول إلى الأقداس
كان من امتياز هرون في أول الأمر، أن يدخل من وقت لآخر إلى قدس الأقداس. لكن لما خالف ابناه شريعة الله وماتا. سحب الله من هرون هذا الامتياز، ولم يسمح له بالدخول إلى قدس الأقداس إلا مرة واحد في السنة (لاويين10: 16)، وذلك في يوم الكفارة (ى). ومن (لاويين16) يتضح لنا أنه عند دخوله إلى هذا المكان، كان عليه القيام بالأعمال الآتية:
1-الاغتسال:
كان أول ما يفعله هرون قبل الدخول إلى قدس الأقداس، هو غسل جسده بماء، حتى يصبح طاهراً (بناء على الشريعة الطقسية)، وكان هذا رمزاً إلى أن المسيح طاهر في ذاته كل الطهر، سواء أكان في السيرة أم السريرة.
2-ارتداء الثياب المقدسة:
وكانت تتكون من قميص وسراويل ومنطقة وعمامة، وكانت مصنوعة كلها من الكتان[1]- إن الملابس المصنوعة من الكتان تمنع حدوث العرق، الذي يرمز إلى ما يصدر من الطبيعة البشرية من خطايا كريهة. ولون القميص والسراويل البيضاء كانت ترمز إلى الطهارة من الداخل والخارج معاً. والمنطقة البيضاء فضلاً عن كونها رمزاً إلى طهارة الأحقاء، فإنها كانت ترمز أيضاً إلى الاستعداد الكامل للخدمة. والعمامة البيضاء فضلاً عن كونها رمزاً إلى طهارة الفكر، فإن ارتداءها كان يرمز أيضاً إلى الكرامة (زكريا3: 5)، أو الخضوع أمام الله (1كورنثوس11: 5). وخلو هذه الملابس من أية زينة كان رمزاً إلى الإتضاع، الذي يجب أن يكون ملازماً لتقديم ذبيحة الكفارة.
والمسيح، من الناحية الناسوتية، ضرب المثل الأعلى، ليس فقط في الطهارة والكرامة والاستعداد التام لخدمة الله، بل وأيضاً في الطاعة المطلقة له. فقد قال الرسول عنه "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فيليبي2: 5).
3-تقديم ذبيحة الكفارة الخاصة بهرون وبنيه:
(أولاً) كانت هذه الذبيحة ثوراً[2]. وبعد ذبحه كان هرون يملأ المجمرة من نار المذبح القائم أمام الرب، ويأخذ ملء راحته بخوراً عطراً دقيقاً، ثم يدخل بها إلى قدس الأقداس. وهناك يضع البخور على النار أمام الرب، فتغشى سحابة البخور الغطاء الذي على التابوت (ك)، والذي كان رمزاً إلى عرش الله. ومن ثم لم يكن يتعرض للموت بسبب مواجهته رمزياً لجلاله تعالى. وبعد ذلك كان يأخذ من دم الثور (أو دم تيس الكفارة الخاص بالشعب كما سيتضح مما يلي) وينضح بأصبعه مرة فوق الغطاء، وسبع مرات قدامه. وكان يقوم بكل هذه الأعمال دون أن يكون في خيمة الاجتماع سواه. وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن هرون لم يستطع الدخول إلى قدس الأقداس، إلا بعد تقديم الكفارة اللازمة عن نفسه. أما الكفارة التي قدمها ربنا يسوع المسيح قبل دخوله إلى قدس الأقداس السماوية، فلم تكن عن نفسه بل عن نفوسنا نحن، لأنه له المجد كامل في ذاته كل الكمال. كما أن كفارته هذه لم تكن ثوراً أو حيوان آخر، بل كانت نفسه التي هي أثمن من كل نفوس البشر جميعاً بما لا يقاس. وبذلك استطاع أن يكفر عن كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً، في أي عصر من العصور.
(ب)-والبخور العطر المتقد بنار المذبح كان يرمز إلى سجايا المسيح السامية، التي تجلت في تقديمه نفسه كفارة- هذه السجايا التي أدخلت السرور إلى قلب الله، فغطت الأثر السيئ الذي تركه عصيان الناس لديه تعالى. وطبعاً ما كان لهرون أن يظهر في حضرة الله، لولا السحابة الصاعدة من البخور قد سترته عن حضرة الله. أما المسيح فلم يكن في حاجة إلى مثل هذا البخور، لأنه لكماله الذاتي لا يحول بينه وبين الله حائل من نوع ما. كما أنه بفضل استحقاقات كفارته وكهنوته، فإننا مع حقارة شأننا نستطيع أن ندنو من الله، دون أي حجاب كما يفعل له المجد.
(ج)-ونضح الدم على الغطاء- الذي كان يرمز إلى عرش الله- كان يشير إلى أن المؤمنين الحقيقيين المغتسلين بدم المسيح يستطيعون أن يصلوا إلى هذا العرش بعينه. ونضح الدم مرة واحدة فوق الغطاء وسبع مرات قدامه (أو بالحري على جانب التابوت الذي تقع أنظارنا عليه)، إشارة إلى أن الله لا يحتاج أن يرى دم المسيح أكثر من مرة لكي يقبلنا نحن المؤمنين في حضرته. أما نحن فيعوزنا التأمل في هذه الحقيقية المرة بعد الأخرى حتى نتيقن منها تيقناً تاماً. ومع كل فشكراً لله لأننا نقوم في حضرته على قياس تقديره تعالى لكفارة المسيح، وليس على قياس تقديرنا نحن لها. ونضح الدم في قدس الأقداس قبل التكفير عن المذبح الخارجي، إشارة إلى أنه لا غفران لنا في الأرض، قبل إيفاء مطالب قداسة الله وعدالته في السماء. وهذا ما عمله ربنا يسوع المسيح لأنه وإن كان قد بذل دمه على الأرض، لكن هذا الدم قد رآه الله في السماء أولاً، وقد اكتفى به كفارة عن الخطية، ومن ثم شق الحجاب الذي كان يفصل بيننا وبينه، معلناً بذلك صفحه الكامل عن خطايانا وترحيبه بنا في حضرته. وضرورة عدم وجود أحد في خيمة الاجتماع أثناء تقديم الكفارة عن الخطية سوى هرون، إشارة إلى أن مهمة الخلاص من الخطية هي بين الله وبين المسيح فحسب، فالله هو الذي دبرها والمسيح هو الذي نفذها. ولذلك فكل ما علينا أن نفعله نحن هو أن نفيد منها، وذلك بالتوبة والإيمان الحقيقي.
(ثانياً)-وبعد قيام هرون بما تقدم ذكره، كان يخرج إلى المذبح الذي أمام الرب ويكفر عنه. فيأخذ من دم الثور (ومن دم تيس الكفارة)، ويجعل على قرون المذبح مستديراً، وينضح عليه من الدم بأصبعه سبع مرات ليطهره ويقدسه من نجاسات بني إسرائيل، ثم يوقد الشحم بأكمله عليه. وأخيراً يخرج بالثور (وتيس الكفارة) اللذين أتى بدمهما للتكفير في قدس الأقداس، إلى خارج المحلة ليحرقا بالنار، بما فيهما من جلد ولحم وفرث. والرجل الذي يحرقهما كان يغسل ثيابه ويرحض جسده بماء، وبعد ذلك كان يدخل إلى المحلة. وإزاء ذلك نقول:
(أ)-نظراً لأن مطالب عدالة الله وقداسته قد وفيت في قدس الأقداس- الذي كان يرمز إلى السماء- لم يكن هناك مانع من إعلان الغفران الإلهي على الأرض بالتكفير عن المذبح الخارجي. ووضع الدم على قرون المذبح كان يشير إلى إعلان قوة الكفارة، لأن القرون كانت ترمز إلى القوة كما ذكرنا. ورش الدم مستديراً كان يشير إلى أن كفاية كفارة المسيح لا أول لها ولا آخر.ونضح الدم سبع مرات (لا أكثر ولا أقل)، إشارة إلى كمال التكفير بالمسيح وعدم الحاجة معه إلى شيء آخر للحصول على الغفران والقبول أمام الله. وتطهير المذبح، يدل على أن خطايانا لا تضرنا نحن فقط، بل أنها قبل كل شيء هي نجاسة لا يطيق الله رؤيتها، وأن السبيل الوحيد إلى محوها هو الكفارة التي قام بها المسيح. وإيقاد الشحم، الذي يدل على سلامة الثور وقوته، على مذبح الله كان يشير إلى أنه تعالى وحده هو الذي يقدر كمال المسيح الذاتي ويجد فيه سروره ولذته.
(ب)-والخروج بالثور (وتيس الكفارة) بعد ذلك إلى خارج المحلة وحرقه بما يحوي من جلد ولحم وفرث فهو إشارة إلى أنه بقبول المسيح- على نفسه- نجاسة خطايانا مع دينونتها الرهيبة، واعتبر (تبارك اسمه) أثيماً. كما أنه كان إشارة إلى رفض الله للإنسان العتيق الذي صدرت منه الخطية رفضاً تاماً. وهذا ما يؤكد لنا رداءة هذا الإنسان، وعدم إمكانية إصلاحه، ووجوب غض النظر نهائياً عنه. كما يؤكد لنا أننا- كمؤمنين في المسيح- قد انتهى أمرنا من أمام الله كأناس في الجسد الفاسد الموصوم بالخطية، وأصبحنا الآن أمامه في الإنسان يسوع المسيح- هذا الإنسان الكامل الذي مجد الله كل التمجيد، والذي على أساس وجودنا فيه يمكن أن نتبارك بكل بركة روحية في السموات (أفسس1: 3).
ومما تجدر ملاحظته أيضاً أنه على الرغم من حرق الثور (وتيس الكفارة) خارج المحلة، رمزاً إلى الدينونة الرهيبة التي قاساها المسيح على الصليب، فإن شحمهما كان يوقد على مذبح المحرقة، رمزاً إلى أن الفداء الذي صنعه المسيح، كان في جوهره يملأ قلب الله غبطة وسروراً.
(ج)-وأخيراً نظراً لأن من أحرق الثور كان قد أمسك به، لذلك تكون الخطايا التي حملها الثور شرعاً، قد انتقلت إلى هذا الشخص شرعاً أيضاً. ومن ثم كان يجب عليه أن يترحض ويغسل ثيابه، لكي يصبح طاهراً من الناحية الطقسية.
أما المسيح فنظراً لأنه هو الذي قدم نفسه بنفسه كفارة، فقد اعتبر وحده (تبارك اسمه) أثيماً (مزمور69: 5) وملعوناً أيضاً (غلاطية3: 13) نيابة عنا. وظل معتبراً هذا الشخص وذاك حتى قام من الأموات، لأن هذه القيامة هي التي أعلنت كماله الذاتي، كما أعلنت كفاية كفارته إلى الأبد.
4-ذبيحة الكفارة الخاصة بالشعب:
كان هرون يأخذ من بني إسرائيل تيسين، ثم يوقفهما أمام الرب لدى خيمة الاجتماع، ويلقي عليهما قرعتين: قرعة للرب (أي لإيفاء مطالب عدالته) وقرعة لعزازيل[3](أي لعزل الخطايا من أمامه تعالى). وبعد ذلك يقرب التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويقدمه ذبيحة خطية. أما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل، فيوقفه حياً أمام الرب ليكفر به عن الشعب، وذلك بإطلاقه على وجه الصحراء. ومن ثم كان يضع يديه على راس التيس ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وسيئاتهم مع كل خطاياهم ويجعلها على رأسه، ثم يرسله بيد من يلاقيه إلى الصحراء. والذي أطلق التيس، يغسل ثيابه ويرحض جسده بماء، وبعد ذلك يدخل إلى المحلة. وإزاء ذلك نقول:
(أ)-إن التيسين معاً كانا وجهين لذبيحة الخطية الخاصة بالشعب، فكان أحدهما رمزاً إلى التكفير عنها أمام الله، ولذلك كان هرون يدخل بدمه إلى قدس الأقداس ويعمل به كما عمل بثور الخطية السابق ذكره. والثاني كان رمزاً إلى إزالتها وإبعادها من أمامه تعالى. ومن ثم كان التيسان معاً يمثلان المسيح من ناحيتين. فمن الناحية الأولى هو الذي وقعت عليه القرعة للرب، أو بالحري الذي اختاره الرب، لإيفاء مطالب عدالته داخل الأقداس السماوية وذلك بدمه الكريم. ومن الناحية الأخرى هو الذي وقعت عليه القرعة لعزازيل، أو بالحري هو الذي اختاره الرب لإبعاد الخطية من الظهور في حضرة الله إلى الأبد، الأمر الذي كان يرمز إليه بإطلاق التيس الثاني إلى الصحراء المترامية الأطراف حتى لا يعود منها، بل يموت فيها تحت ثقل الخطايا التي وضعت شرعاً عليه- وقد أشار إشعياء النبي إلى المسيح كمن عزل في البرية حاملاً على نفسه خطايا الشعب فقال عنه إنه "قطع من أرض الأحياء" (إشعياء53: 8).
(ب)-إن هرون بوضعه خطايا بني إسرائيل على التيس الحي بصفة رمزية، يمثل الله جل شأنه الذي وضع فعلاً على المسيح كل آثامنا. وقيام الله بنفسه بهذه المهمة هو أساس سلامنا، لأنه وحده هو الذي يعرف كل خطايانا صغيرها وكبيرها، ما خفي منها وما ظهر، وما نسيناه منها وما نذكره، ولأنه وحده هو الذي يستطيع أن يحمل على نفسه هذه الخطايا ويريحنا منها إلى الأبد. وقد رأى ميخا النبي هذه الحقيقة منذ القديم، ولذلك قال عن الله إنه يطرح خطاياهم في أعماق البحر (ميخا7: 19). كما رآها داود النبي فقال (كبعد المشرق من المغرب، أبعد (الله) عنا معاصينا" (مزمور103: 12).
كما أن اختيار أحد التيسين ليكون رمزاً إلى التكفير والآخر ليكون رمزاً إلى إزالة الخطية وإبعادها (بواسطة القرعة)، كان إشارة إلى عدم تدخل الفكر البشري في شيء من أمر الفداء، لأنه من أوله إلى آخره خاص بالله. وكون التيس الأول لأجل الرب، والثاني لأجل عزازيل بهذا الترتيب، فإن هذا يشير إلى أنه لا سبيل لعزل الخطية من أمام الله، إلا بعد التكفير عنها أولاً أمامه.
(ج)-إن تيس عزازيل كان يحمل خطايا اليهود بصفة رمزية عن سنة مضت، ولذلك كان يظل ذكر خطاياهم من سنة إلى أخرى. أما الكفارة التي قدمها المسيح مرة على الصليب، فكانت عن كل الخطايا الماضية والحاضرة والمستقبلة، ولذلك ليس هناك داع لأن يقدم نفسه مرة غيرها تحت أي شكل من الأشكال (رومية6: 10، 1بطرس3: 18، عبرانيين7: 27، 9: 26و 28، 10: 10). ومع ذلك فما أعظم البركات التي حصلنا عليها من هذه المرة، فقد نلنا المصالحة والتبرير والتقديس والولادة الثانية من الله- هذه البركات التي لم تكن تخطر لنا ببال، كما ذكرنا في الباب الأول.
(د)-أخيراً نقول إن بركات يوم الكفارة لم تكن تشمل بني إسرائيل وحدهم، بل كانت تشمل أيضاً كل الغرباء والنزلاء بينهم (لاويين16: 29). وكان ذلك رمزاً إلى أن بر الله في المسيح ليس موجهاً إلى فريق خاص من الناس، بل موجهاً إلى كل الناس دون استثناء (1يوحنا2: 2، رومية3: 22).
5-كبشا المحرقة:
كان هرون يأخذ مع ثور خطيته، كبشاً للمحرقة. كما كان يأخذ كبشاً أيضاً من بني إسرائيل مع ذبيحة خطيتهم. وبعد الانتهاء من خدمة ذبيحتي الخطية، كان يقدم محرقته ومحرقة الشعب ليكفر عن نفسه وعن الشعب أيضاً. وهذا الترتيب يتفق مع الحق الإلهي كل الاتفاق، لأنه بعد التكفير عن الخطية أمام الله وإزالتها عن المؤمنين إلى الأبد بواسطة ذبيحة الخطية، ينفتح المجال أمامهم للتعبد التطوعي لله، الأمر الذي كان يرمز إليه بتقديم ذبيحة المحرقة. وقد تحدثنا فيما سلف عن الإجراءات الخاصة بهذه الذبيحة، ولذلك لا داعي لإعادة ما ذكرناه عنها.
40-لم يكن هرون يلبس وقتئذ ثياب المجد والبهاء (التي سنتحدث عنها في الفصل التالي)، لأن هذه تشير إلى المسيح كرئيس الكهنة القائم في استحقاقات أمجاده أمام الله، ممثلاً إيانا أمامه. أما في كفارته على الصليب فلم يكن ظاهراً في استحقاقات هذه الأمجاد، بل في كماله الذاتي فحسب. ومن ثم فإنه مع عدم وجود سلطة للموت عليه استطاع بسبب هذا الكمال أن يقدم نفسه للموت باختياره، لكي يكون ذبيحة كفارية عن خطية العالم.
41-مما تجدر الإشارة إليه أن خطورة الخطية تتناسب طردياً مع مكانة المسيء، فخطية الكاهن أخطر من خطية الشعب، ولذلك كانت كفارة خطيته ثوراً، بينما كفارة خطيتهم تيسين، كما سيتضح فيما يلي.
42-"عزازيل" كلمة عبرية مشتقة من الفعل عزل. ومعناه "العزل" أو "الإبعاد".
- عدد الزيارات: 3473