إلحاد القرن العشرين
أشد الناس صخباً في قرننا هذا هم جماعة الوجوديين الملحدين. وفي بقاع الدنيا، حيث أصبحت الوجودية زيا ًعصرياً متبعاً، مزاج الناس فيها مزاج من يقول "ليكن الله نسياً منسياً أو "لتكن لعنة الله على الإله" على أن العبارتين ليستا من نوع السباب أو الكفر العابر، بل أنهما عبارتان تعنيان ما تعنيانه حرفياً. حتى أنه عندما يكون الإلحاد على أشده صخباً وازدراء نجد أنه إلحاد يقرب من الجدية والرصانة العميقة. ويمكننا التحقق من صحة هذا القول إذا نحن نظرنا نظرة عجلى في كتابات كاتبين شهيرين. وفي الصفحات القليلة التالية، وبغض النظر عن كثير من أقوالهم الأخرى سأحاول أن أبين كتاباتهما بالنسبة إلى قضية الإيمان بالله.
من جملة الذين يعتبرون من الملحدين مارتن هيديجر (Martin Heidegger) ومن المرجح أنه ملحد، غير أني أعتقد أن مركزه يقع مباشرة على الخط الفاصل بين جزئي الوجوديين. إن أسلوب نثره المعقد الثقيل في الألمانية - مع العلم أنه يستعمل مفردات من وضعه الخاص- أسلوب غامض يصعب كثيراً على القارئ فهمه. أما مؤلفاته الأولى فقد كانت تنم عن علم واسع وعن تعقيد في معالجة المادة.وفي الآونة الأخيرة أخذ يميل إلى الكتابة التي تستهدف في أسلوبها الخفاء والغموض، إلى جانب تركيزه على دراسة بعض الشعراء العظماء. وقد يبدو هذا الاتجاه في الكتابة والأسلوب "معابر في الغابات".
يمكن القول أن موضوع هيديجر المحبب إلى نفسه كثيراً هو "العدم" . يقول لنا هيديجر أن حقيقة الذات الجوهرية الأساسية هي أننا نتجه يوماً فيوماً نحو العدم. كلنا سنموت، وما تبقى من أجسادنا بعد الموت حفنة تراب لا تشكل ذاتاً. إن هيديجر لا يشير لا من قريب ولا من بعيد، إلى استمرارية الحياة، أو الخلود، بعد الموت. إن القدر المحتوم المقيض للذات هو العدم.
إن الحياة محدودة في المكان والزمان، والإنسان جاء هذا العالم بدون إرادته، فكأنه قذف إليه قذفاً. ولا يشعر الإنسان في هذا العالم أنه عالمه أو بيته، فهو غريب عنه، لأن لا جذور له تشده إلى الأرض. ولكن ليس له عالم أو بيت سوى هذا العالم.
ولكن هنا في هذا العالم، وليس في غيره لكل امرئ متسع لتحقيق كيان حقيقي، أو كما نقول في لغتنا العامية، ليكون الإنسان إنساناً حقيقياً. فإن الكيان أو الحياة ليست هبة مجانية تقدم لنا على طبق من ذهب. فإن الجبن والوجل يدفعان بنا جراً إلى أن نحيا حياة دون مستوى الإنسان. غير أن الكيان أو الوجود في هذا العالم فرصة ومتسع، ونستطيع تحقيق الكيان أو الوجود بالشجاعة والإقدام. ولكننا، في شجاعتنا وسعينا، نتبين أن العدم يكتنفنا من كل صوب. (وقولنا هذا لا يعني نفياً للمادة المحيطة بنا بل يعني أن المادة هذه لا تعني شيئاً بالنسبة إلينا). لقد جئنا من العدم، وكل ثانية من الزمن تمر إنما هي فترة زمنية تقربنا من العدم. إننا إذا علمنا هذه الحقيقة، وإذا سلمنا بصحتها نكون قد بلغنا معرفة الذات الحقيقية، هذه المعرفة التي يمكن لنا أن نسميها خلاصاً ونجاة.
من الواضح الجلي أن هيديجر ليس بمسيحي في إيمانه ولا يريد أن يكون رجلاً مسيحياً. فإنه يرفض قبول نظرتنا التقليدية إلى الله. غير أنه يكثر من الكلام عن الوجود والكيان، هذا السر الغامض الذي هو مصدر حياتنا، وهو العدم الذي يبتلع حياتنا. وكتابته عن هذا الموضوع تقترب، هنا وهناك، من كتابات المتصوفة المشهورين في التاريخ المسيحي. وهيديجر لا ينكر حقيقة الله بقدر ما ينكر الآلهة التافهة الكاذبة. وهنا يتفق، إلى حد ما، مع التوراة المسيحية.
أما جان بول سارتر، بالمقابلة مع هيديجر، فإنه ملحد صريح صاخب في دعواه. وهو يبزّ أقرانه من الوجوديين في أنه أعظم من أغدق على الوجودية شهرة وانتشاراً. وسارتر، إذا ما قورن بهيديجر المتنسك الكئيب، رجل له مكانته في المجتمع، ورجل على كثير من الشهرة. وفي حياته مر في أطوار عديدة، فقد كان معلماً، وروائياً، وجندياً، وأسير حرب فر من معتقله، ومحرراً في جريدة سرية كانت تصدرها حركة المقاومة الفرنسية أيام الاحتلال الألماني. ولكنه بلغ الذروة في الشهرة بعد انتهاء الحرب. وقد تناهق رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته إلى جمهور من القراء الذين عادة لا يميلون إلى قراءة الفلسفة، لاسيما إذا كانت فلسفة على مستوى عال. والحياة الشاذة في باريس جعلت منه شخصية تجذب إليها رهطاً من الناس الذين يتذوقون الحياة الاجتماعية الراقية. وقد وجدت فيه جماعة المتحللين من جميع التقاليد الصارمة (وهم عادة جماعة تتمرد على عرف المجتمع ونظامه بتمسكهم بنظام وتقاليد جديدة) رجلاً زعيماً يجسد نظرتهم، ويمثل آراءهم خير تمثيل. أما السياح الأميركيون في باريس فإنهم كانوا يتوقعون عند المقهى المحبب إلى نفس سارتر حيث يكتب كتاباته ليسترقوا نظرة إليه تشبع فضولهم. ومن ثم يعودون إلى أميركا ليقصّوا أساطير عن الرجل يصعب على المرء معها أن يأبه به، أو أن يأخذه بعين الجد. غير أن زوار باريس فاتهم أمران أولاً إنه تقليد فرنسي أن يكتب الكاتب وأن ينظم الشاعر في المقهى فليس في الأمر غرابة. ثانياً إن الفندق الذي اختاره سارتر لسكنه معدوم من وسائل التدفئة مما جعله يؤثر المقهى مكاناً يكتب فيه.
ولكن سارتر، بالفعل، رجل فيلسوف رصين. وإلحاده - الذي ليس من النوع الذي لا يبالي فيه صاحبه- يهدف إلى أمر خطير. إن همه ليس أن يدلل على عدم وجود الله بقدر ما هو أن يدلل على أن وجود الله - إذا كان وجود الله أمراً حقيقياً- ليس بأمر ذي بال بالنسبة إلى البشر. يقول سارتر: "إن ما يحتاج إليه الإنسان هو أن يعود فيكتشف حقيقة ذاته، وأن يدرك أن لا شيء ينجيه من ذاته حتى وأن كان لديه الدليل القاطع والبرهان الجلي على وجود الله" .
أن هذه العبارة الأخيرة تحتاج إلى شيء من التدقيق. لنفترض أن كير كغارد يستطيع أن يقرأها، فإنه، من جهة، يقول: أن سارتر على حق، لأن مجرد التدليل أو البرهنة على وجود الله ليس شيئاً ينجي الإنسان ويخلصه. وكل الدعائم أو الركائز الملموسة التي يلجأ إليها الإنسان ليضمن لنفسه الطمأنينة والاستقرار لا تعني شيئاً، إذ أن على الإنسان أن يكتشف حقيقة ذاته. ولكن الرائد الدنمركي كير كغارد له أن يتابع كلامه فيقول: إن الإنسان لن يتمكن إطلاقاً أن يكتشف ذاته ما لم يدرك أولاً معنى حياته القصيرة القلقة بالنسبة للحقيقة الأزلية التي وهبته الحياة. عندئذ تكون ردة الفعل عنده إزاء الأزلية السرمدية إما ثورة وعصياناً أو ثقة وإيماناً.
غير أن سارتر عنده جواب عن مثل هذا القول. فإن إلحاد سارتر، خيراً كان أم شراً، له هدف إيجابي، بمعنى أنه يريد الإنسان أن يتحمل مسؤولية ذاته، لا أن يكون الله مسؤولاً عنها، ويريده أن يكون هو الحكم الأخير في ما يتخذه من قرارات لنفسه - أي بكلام آخر يريد سارتر أن يكون الإنسان ذاته خالقاً للقيم ومقرراً لها. فإن الدين، إلى وقتنا هذا، كان السبيل الممهد، والأداة المطيعة في جعل الله الكائن المسؤول عن تحمل هذه الأمور، لا الإنسان. فإن الإنسان التقي المؤمن، عوضاً عن أن يتخذ القرارات هو لنفسه، وعوضاً عن أن يتحمل مسؤولية عمله، نراه يلجأ إلى الله طالباً إليه العون في ما يجب أن يعمله.
إن هذه الحجة التي يدلي بها سارتر توخز. إنها حجة يتذكرها الرجل الإنجيلي أنها أشبه بالنبلة التي رمى بها أخاه الكاثوليكي. ألم يهزأ الإنجيليون يوماً بالسلطة العليا التي كانت تدعمها روما؟ ألم يهزأ البروتستانت بالرجل الكاثوليكي الذي كان يجد دوماً جواباً عن كل مشكلة روحية خلقية برجوعه إلى كاهنه؟ (وكان الكاهن يلقَن الجواب أو أنه كان يتعلمه من كتاب فيه فتاوى شرعية.) فهل أن سارتر استنتج من تعليم البروتستنتية استنتاجه المنطقي النهائي- أو السخيف- بإشارته إلى كهنوت كل فرد غير مؤمن؟
قد يكون هذا هو الذي فعله سارتر، وقد لا يكون. والقضية تعود فتبرز مرة أخرى: هل أن "وثبة الإيمان" هي تجاوب وتعاطف جريء، مع الله الموجود حقاً، أم إنها هرب وانهزام إلى نوع من السراب الخداع؟ ان المسيحي الإنجيلي يستطيع أن يرد على سارتر بقوله أن المسؤولية- وهي الكلمة المحببة عند الوجوديين- تستمد معناها من الاستجابة. فان المسيحي يعيش متجاوباً مع الله القدوس الذي هو خالقه. والمسيحي يشهد انه في تلك اللحظات (وإن تكن لحظات نادرة) التي يستجيب فيها لخالقه واثقاً شاكراً يتجاوب مع دعوة سماوية تدعوه إلى مغامرة جريئة، والى حرية حقيقية تفضل المغامرة والحرية التي يحصل عليها في تلك اللحظات (وهي لحظات عديدة) التي فيها يتحدى الله.
- عدد الزيارات: 3735