Skip to main content

الفصل الرابع: هذا الرجل الدنمركي المقلق

كان سورين كيركغارد يقترح أن تطلق عليه عبارة ((ذلك الفرد)) وفي الواقع انه كان((ذلك الفرد.))

كان كيركغارد القطب الرئيسي في الفلسفة الوجودية من ناحيتين. أولاً أنه أعطى الحركة شكلها وزيها بكتابته الدافئة البراقة الصاخبة، والتي تنم عن إخلاص وتكريس. ثانياً أنه كان مثال الوجودي الحي الذي كان يعيش ما يكتبه عيشة تامة. كان يشبه سقراط الذي تكلم عن الفلسفة والذي كان هو ذاته فلسفة.هكذا فعل كيركغراد: كتب عن الوجودية وعاشها.

ودراسة حياته دراسة نقدية أمر يستهوي الباحث، والوثائق والدلائل فيها كثير مما يثير:ملامحه الكئيبة، وأخلاقه وأطواره الغريبة، وشعوره بتأنيب الخطيئة، خطيئة أبيه وخطيئته التي اقترفها، ومغازلته فتاة تدعى رجينا وخطبته ثم هجرانها الذي سبب له ألماً نفسياً بسبب الاصطراع النفسي الداخلي وبسبب شعوره أنه امرؤ مدعو ليؤدي رسالة، وحياته المزدوجة: حياة اجتماعية عامة مرحة عابثة، وحياة خاصة أشبه بحياة التائب المتزهد، وإنتاجه الأدبي الضخم الذي ألفه في وقت قصير، وعذابه الداخلي واختباره النعمة الإلهية، ثم مهاجميه الكنيسة بدافع أمانته وغيرته على المسيح، أقول جميع هذه الأمور كانت على كثير من الاستهجان والغرابة.

وفضلاً عن هذا، علينا أن ننظر إليه وأن نتفحصه كما يشير علينا به كير كغارد نفسه. فإنه كوجودي حقيقي يهزأ بعادة النقاد الذين يفرقون بين الكاتب المؤلف وما يؤلفه. إنه يدعونا أن ننظر في وجهه كي نستطيع نحن أن ننظر في ذواتنا. كان يقول عن حياته أنها "قصة ذات مغزى من شأنها أن تجعل الناس أن يعوا وأن يتيقظوا." وقد وصفه ريتشرد نيبور (Niebuhr ) بعبارة واضحة تصويرية، يقول عنه أنه " يدلنا على سلسلة من اللافتات على جانب الطريق كتب عليها: من هنا الطريق إلى المعلم، وعندما نصل إلى المعلم نجد صورة يد لاتشير إلى مكان سوى إلى ذواتنا."

ولكن هذا الكتاب كتاب صغير مختصر لا يسعنا معه الإسهاب. وعليه، وأستميح كيركغارد عذراً، اكتفي بهذه الكلمة القصيرة عن حياته فانتقل إلى الكلام عن مؤلفاته. بدأ حياته الكتابية ضمن إطار محدود ضيق - وهذا طبيعي لأن قراء الكاتب الدنمركي محدود العدد- ولكن لم تلبث كتاباته طويلاً حتى أخذت أصداؤها تتردد في جميع جوانب أوروبا وأمريكا. فقد ترجم منها إلى الإنكليزية أكثر من عشرين مجلداً في متناول الذين يقرؤون الإنكليزية، وقد صدرت إلى الأسواق بشكل سيل قوي عارم منذ سنة 1936 (أي بعد وفاة كير كغارد بإحدى وثمانين سنة). وهكذا وجد هذا الدنمركي جمهوراً يصغي إليه وقراء يعجبون بكتاباته.

إنه من غير المعقول (و"غير المعقول" كلمة مستحبة عند كير كغارد) أن يحاول أحد الناس اختصار تعاليم كيركغارد بشكل مقتضب. فإنه لا يطرح آراءه بشكل رتيب منتظم، وإذا حاول امرؤ أن يضعها بشكل منتظم فإنه قد يشوه بعض معالمها. وكيركغارد أشبه بملاكم- ولكنه ملاكم أديب- يطعن خصمه، ويراوغ، ثم يمسك بالقارئ على حين غرة ليصرعه. ثم إنك أذا كنت من قرائه فإنه يحاول أن يدفع بك (وكتاباته دوماً موجهة إلى القارئ) إلى زاوية لينهال عليك بقبضاته ثم يفسح لك مجالاً لتخلص منه ويتحداك إن كنت تجرؤ على الهرب منه. ويجعلك تضحك عندما يوجه نكتته اللاذعة إلى غيرك من القراء، لكنك لا تلبث أن تشعر أنت وكأن سوط النكتة يلهب ظهرك. وقد يسخر ويهزأ ويصب القدح والتنديد وفجأة يعود بك إلى جو من الاحتشام والوقار والصلاة.

وبالرغم من هذه الفوضى الأدبية فإنني سأحاول أن أصف إلى القارئ بعض الآراء والنظريات التي بثها في الوجودية كفلسفة.

  • عدد الزيارات: 2917