وجاءت الوجودية
إن المجتمع بالاشتراك مع الفلسفة، يستطيعان أن يبقيا الثورات الشبيهة بثورة باسكال ضمن إطار محدد بلجوئهما إلى ضروب من الضغط . ولكن كلما ازداد الضغط من الخارج اشتد الضغط من الداخل، وما أن أطل القرن التاسع عشر حتى كان الضغط قد استحال إلى انفجار. هذا القرن، قرن الملكة فكتوريا، الذي كانت الحياة تسير فيه بثقة ورضا بلغا بالناس حد الضجر، أقول، إن هذا العصر كان عصر الجبابرة الثائرين المحتجين الذين هزّوا أساسات عصرهم وعصرنا نحن.
كان أولهم سورين كيركيغارد ( Soren Kierkegaard ) (1813- 1855) الذي جعل من الوجودية حركة ذاتية واعية، ووضع لها أكثر مصطلحاتها . من برجه في الدانمارك كان يطل على مجتمع أوروبي يختنق بدخان المحافظة الدينية والعقلانية، فراح يحاول وخزه قصد إزعاجه فأثارته. هزأ بالفلاسفة أمثال هيجل (Hegel) الذين كانوا يفاخرون بأن المدارس الفلسفية الفخمة التي وضعوا أنظمتها تحل جميع المشاكل، وتجيب عن جميع ما يثار من تساؤل- ولكن بدون أن يثيروا هم أنفسهم واحداً من جملة الأسئلة المثيرة الرئيسية كالسؤال : من أنا؟ ما معنى كوني إنساناً موجوداً؟ أي قلق نفسي وأي عذاب داخلي تخفيه هذه التفسيرات البلهاء التي نحاول باعتداد أن نفسر بها الحقيقة؟ وسأعود بالقارئ الكريم إلى بحث آرائه في الفصل التالي .
وإذا عبرنا القارة الأوروبية نلتقي عند منتصفها بالروسي القلق النفس فيودور دوستيفسكي (Fyodor Dostoevsky) ( 1821- 1881) الذي نفث ما كانت تجيش به نفسه من هم ومن تعطش إلى الحرية في روايات قوية رائعة، وبصورة خاصة في قصته الموسومة بـ"ملاحظات من العالم السفلي " حيث صور لنا شخصية قلقة تشمئز منها النفس، ولكن في الوقت ذاته تثير الإعجاب والهشة. هذه الشخصية الروائية أرادها دوستيفسكي أن تكون بمثابة داع يشكو ويتذمر فإنه يهزأ وبكل جرأة وقحة بأي " قانون طبيعي " من شأنه أن ينكر عليه حريته مهما كان القانون شديداً صارماً أو يملي عليه أعماله فيحوله من رجل إلى آلة طيعة رهن أمره وكان يقول أنه إذا لم تعجبه هذه القاعدة الرياضية " اثنين باثنين تساوي أربعة" فإنه لن يقبلها ولن يؤمن بصحتها. وكان شديداً عنيفاً في مهاجمته الأخلاق البرجوازية، الأخلاق الناجمة عن الرخاء الاقتصادي وعن اللين في العيش، تلك الأخلاق التي تقوم على أساس أن الإنسان يعيش "ليكون في مأمن من كل ضرّ وشر" وشخصية دوستيفسكي الروائية كانت تؤثر أن تتصرف في الحياة و دافعها الكيد والحقد والحمق. كانت شخصية تسعى وراء الألم والشقاء والأحلام الشاردة البعيدة، وكل ذلك في سبيل الحصول على " أثمن شيء في الحياة" : الفردية المستقلة.
ونعود إلى ألمانيا إلى فردريش نيتشه ( Friedrish Nietzshe) ( 1844- 19..) الذي تفجر عن صرخات عنيفة حارة ضد عبادة " الأمور الوسط" وضد المحافظة التقليدية. لم يقيض لنيتشه أن يمتدح كثيراً من قبل الكتاب والمفسرين كما أنه لم يستحق المدح الكثير . غير أن رسالته هزت أرجاء العالم. هزأ نيتشه بالأخلاق الخفرة الجبانة التي تتمسك بها الكنيسة وصرح قائلاً أن الله مات. ولكن العالم السيكولوجي الشهير يونغ (Jung) يقول :" إن التاريخ لا يطيق تحمل عدد كبير من الناس المتدينين أمثال نيتشه متباهياً أن كل إنسان، هو " أعجوبة فريدة " يبخل التاريخ بمثلها. ولكن بما أن الناس ينشدون الراحة والسكون، ويخشون جيرانهم نراهم يذعنون إلى غريزة القطيع ويرفضون التمتع " بأعظم سعادة في الحياة" أعني أن يعيشوا " حياة تكتنفها المخاطر " . إن الكتابات نيتشه تنبض بروح الكفاح والأمل اليائس.
لا يستطيع امرؤ لأن يتغاضى عن ذكر رجل يختلف عن الذين جئنا على ذكرهم كل الاختلاف أعني كارل ماركس غير أنه يقف في منتصف طريق الوجودية، فهو نصف وجودي وبما أن كارل ماركس كان يرفض النظرية التي تقول أن دور الإنسان هو دور المتفرج فإنه راح يخالف ما كان الفلاسفة يسعون رواءه، أي وصف الحقيقة، ويدعو إلى تغييرها.فقد أعلنها حرباً عشواء ضد النظام الصناعي الذي خنق الحرية الفردية، وخلق روح العداء والتفرقة بين الإنسان وأخيه الإنسان وباعد بين نتاج العمل والعامل الذي أنتجه . ومن سخرية القدر أن الفلسفة الماركسية التي كانت تستهدف تحرير البشرية راحت تستعبد جماهيرهم. ويقع بعض اللوم على ماركس، المؤسس الأول لعقيدته، وبعضه يقع على الذين استغلوا اسمه لأغراضهم الشريرة في استعباد الناس.
هذه الحفنة من الناس الدراماتيكيين الشديدي العزم- باسكال ودوستيفيسكي ونيتشه وماركس- الذين لم يقم بينهم أي نوع من الصلة والتعاون، قد أفلحوا جميعاً في تغيير المفاهيم التي يعيش الناس بموجبها. وكانوا جميعاً أشخاصاً من شواذ الناس، وجميعهم كانوا مرضى في أجسادهم . كانوا أناساً يقاسون مرارة العزلة،
لا أصدقاء لهم، وإذا كان لهم أصدقاء فإنهم كانوا يعاملونهم بقسوة وجفاء. جميعهم كانوا من يقاسي الألم والشقاء، وثلاثة منهم كانوا على حافة الجنون. لم يكن واحد منهم ذلك الشخص الذي تتوق أم أن يكون ولدها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان : إذن، لماذا لا نرفض فلسفتهم، ولماذا لا نغفل أمرهم؟ لكل امرئ أن يرفض بعض آرائهم، ولكن إغفال أمرهم شيء ليس بالأمر اليسير.كان مرضهم نذيراً لما سيعتدي المجتمع من أمراض وعلل قضت على حياة كثيرين من الناس في القرن العشرين. إنهم كانوا في عوننا لفهم ذواتنا، وكل واحد منهم، وبطريقته الخاصة، أشار إلى أن الإنسان يستطيع أن يكون أكثر من مجرد آلة صغيرة في آلة ضخمة، وأكثر من مجرد إنسان كل ما يطلب إليه أن يكون منسجماً مع الجماهير في المجتمع.
وتجدر بي الإشارة إلى رجل آخر وإن لم يكن من جماعة الوجوديين، ولكن ذكره هنا له علاقة بالموضوع الذي نعالجه، وهو سيغموند فرويد (Sigmund Freud ) (1856- 1939).
ويتعرض فرويد لنقد الوجوديين اللاذع لأنه عزا كثيراً من التصرف الإنساني، وكثيراً من الأمور التي يقررها الفرد إلى الكبت الخفي لا إلى الحرية. ولكن هذا الطبيب أثبت عن طريق التجارب المخبرية ما كان الوجوديون يحاولون ان يثبتوه ولكن بلغتهم الشعرية الدراماتيكية. وبعد فرويد يصعب علينا ان نتصور امرئ يقول :
((أنا شيء يفكر.))
إن فلسفة القرن التاسع عشر الوجودية لم تقنع كل إنسان اطلع عليها. وليس هذا فقط، فإن كثيرين لم يسمعوا بالوجوديين،وكثيرون تظاهروا بأنهم لم يسمعوا بهم. ولكن موقف الوجودي القديم العهد أصبح موقفاً له فلسفة خاصة.
ليس لنا ربما،أن ندعوها فلسفة. فإن قوتها المتفجرة تتخلل كل قاعدة ونظام، وأكثر زعماء الوجودية والمتكلمين باسم الوجوديين يأبون على أنفسهم أن يعرفوا باسم خاص أو (بصنف) خاص.ولكن يجب أن يكون لكل شيء مصطلح يعرف به، ولذا نحن نستعمل لفظة ((وجودية)) في هذا الكتاب لتعني الحركة المتنوعة الجوانب التي نجمت عن الثورة العصرية. وإذا استعملنا النعت أو الصفة: ((وجودي)) فإنما نعني الموقف الدائم وإذا استعملنا ((الوجودية)) فإنما هي إشارة إلى الحركة المعاصرة وإلى خصائص موقفه المميز.
ولكن مهما أطلقنا على الحركة من أسماء فإنها حركة مستقبل. كانت حركة متفجرة مقيض لها أن تعم أوربا بعد الحرب العالمية الأولى، وكان مقيضاً لها أن تعم العالم الغربي بأسره بعد الحرب العالمية الثانية.
- عدد الزيارات: 3698