الإصحاح الثالث والأربعون: عــاقبة الـرب - استرداد الأصحاب
(ع 7- 9) استرداد الأصحاب.
".. وكان بعدما تكلم الرب مع أيوب بهذا الكلام أن الرب قال لأليفاز التيماني.." ولماذا تكلم الرب مع أليفاز؟ ذلك لأنه لاحظ له المجد أن أحداً من هؤلاء الرجال الثلاثة لم ينطق بكلمة. فلم يستفيدوا من القضية كما استفاد أيوب إذ لو كانوا قد استفادوا كما يجب لكانوا قد اشتركوا مع أيوب وقالوا: أيها السيد الرب اغفر لنا غباوتنا، لقد أخطأنا ليس فقط ضدك بل ضد صديقنا العزيز أيوب. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. فقد صمتوا كما يفعل الكثير من الناس عندما يكتشفون أنهم كانوا على خطأ كبير، يلوذون بالصمت كما فعل هؤلاء الأصحاب الثلاثة وكان واجباً عليهم الاعتراف ولكنهم إذ لم يفعلوا، قال لهم الرب موجهاً كلامه لأليفاز باعتباره مقدامهم وأول من تكلم منهم "قال الرب" "قد احتمى غضبي عليك وعلى كلا صاحبيك لأنكم لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب" وهنا نسأل: متى قال أيوب الصواب، وما هو الصواب الذي قاله؟ هو تلك العبارة الأولى التي اقتبسناها منذ وهلة من الإصحاح الأربعين والتي نطق بها أيوب بعد أن تكلم الرب إليه أول مرة. ثم العبارة الثانية التي وردت في مستهل هذا الإصحاح الأخير والتي تلت الجزء الثاني من حديث الرب. وهما لاشك عبارتان قصيرتان ولكنهما محملتان بالصواب كلّه، فلم تكن أقواله البليغة وأحاديثه الرائعة التي أسكت بها الفصحاء وحيّر العلماء. كلا، لم تكن هذه الأحاديث العلمية الرنانة هي التي قدّرها الرب. إنهما العبارتان البسيطتان الدالتان على اتضاع نفسه واتخاذه المكان الصحيح أمام الرب. وقد وضع الرب الآخرين في مكانهم أيضاً. فلم يخضعوا أنفسهم ولم يتضعوا ولكن الرب هددهم قائلاً: "قد احتمى غضبي عليك وعلى كلا صاحبيك لأنكم لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب".
"والآن فخذوا لأنفسكم سبعة ثيران، وسبعة كباش واذهبوا إلى عبدي أيوب واصعدوا محرقة لأجل أنفسكم – وعبدي أيوب يصلي من أجلكم لأني أرفع وجهه لئلا أصنع معكم حسب حماقتكم لأنكم لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب".
فكان لابد أن يقف أيوب شفيعاً لهم "لأني أرفع وجهه" أي لأني أقبله، لقد انحلّت الأمور الآن وأصبح كل شيء واضحاً لدرجة أن أيوب يستطيع الآن عن وعي وجدارة أن يتشفع في المخطئين. لقد اتضع الآن الأصحاب الثلاثة وانكسرت كبرياؤهم الروحية فبدلاً من جلوسهم قضاة يدينون أيوب ويصدرون أحكامهم عليه أخذوا مكان المسيئين إلى الله الذي يتطلعون إلى أيوب ليستعطف الرب لأجلهم.
إن أول ما نراه هو احتفاظ الله بكرامته تعالى. وهذا أساس كل بركة للخليقة ولو كان ممكناً أن نتصور إغفال كرامته والحط من قدرها، فمعنى ذلك يأس قاتل بلا بصيص من نور. وهي حقيقة بارزة في الكتاب: ففي الواجهة نجد مكتوباً بأحرف من نور "في البدء خلق الله" والقسم الأول من الوصايا كان مخصصاً لمجده، والطلبات الاستهلالية في الصلاة التي علمها الرب لتلاميذه تبرز هذه الحقيقة والإنجيل قائم عليها، وفي الأبدية سوف تبرزها السماوات والأرض وتظهرها المسكونة متعبّدة.
فلا يدهشنا إذاً أن يتجه الله نحو أليفاز وصاحبيه معنفاً ثلاثتهم تعنيفاً صارماً من أجل نصيبهم في المخاصمة التي انتهت، فيما يتعلق بأيوب، نهاية سعيدة، وإذ يخاطب الرب أليفاز، بوصفه الزعيم، نسمعه يعلن غضبه على ثلاثتهم لأنهم لم يقولوا فيه الصواب كعبده أيوب. ومع ذلك فقد كانت خصومتهم ومجادلاتهم بحسب الظاهر من أجل برّ الله. أولم يتمسكوا بها منذ الوهلة الأولى، بكثير من الوصف الفخم والتشهير اللاذع بالشر؟ أولم يثبّتوا على أيوب بتهمة الإثم على الرغم من انعدام البيّنة، بل وعلى رغم الحقائق المعروفة التي تنهض دليلاً على فساد الاتهام؟ كانوا غيورين لكرامة الله!! – ألا فقد كان الموضوع موضوعهم هم.
أو في القليل هذا ما يبدو. لكن الله لا يرتضي الكرامة على حساب الحق. فإن مجده تعالى يقوم في امتزاج كل سجاياه في نور متطابق متوافق فهل يقبل إذاً دفاعاً أو تبريراً لصفاته وطرقه يكون قائماً على قاعدة من الاتهام الباطل؟ الذي يصم بالشر والرياء إنساناً قال عنه الله بنفسه. "ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر". هل يسمح بأن تمر نظرية مرعبة عن الألم كتلك التي صاغها أولئك الرجال وهي أن الألم هو أبدي بمثابة إصبع يومئ إلى الشر؟ إن الألم هو دائماً مظهر من مظاهر الغضب الإلهي؟ إذاً فما القول في تأديبه لخاصته، وفي نتائج التأديب التقديسية؟
في الواقع، كان هؤلاء الرجال فيما قالوه ضد أيوب يسيئون إلى صفات الله. لكنه تعالى لا يرتضيه ولا يسمح أن يدعهم دون توبيخ ولن يكون له شأن معهم ما لم يعدلوا موقفهم باعتراف وذبيحة.
"كعبدي أيوب" متى قال أيوب "الصواب"؟ لم يقله طبعاً يوم كان يصبّ الاتهامات المريرة ضد الله. كلا ولا كان هذا "الصواب" هو تلك الومضات الإيمانية التي عبّر عنها في فترات مثل "ولو قتلني فإني أثق به" (ص 13: 15) أو "قد علمت أن وليّ حي" – أو في أقواله الفخمة عن الحكمة. كل ذلك حق، وفاضل وجميل، ومكانه الجدير هو بعد الاعتراف والندامة اللذين تأملنا فيهما قبلاً.
هذا القول "الصواب" في الرب، هو أن تتخذ مكان المخلوق الخاطئ الذي لا يستطيع أن يدرك الأقلّ في تلك الطرق الإلهية – الطرق الصواب بينما تبدو على غير صواب، هو الإقرار بأن الله هو الله – هو الرب الواجب الوجود الكامل، الكلي الحكمة البار الصالح القدير، العادل القدوس في كل طرقه مهما تكن، ولئن كان "السحاب والضباب حوله" ولكن تبارك اسمه "فالعدل والحق قاعدة كرسيه".
هو الدرس الذي تعلمه أيوب – تعلمه لنفسه كما للآخرين. ألا فليظهر هؤلاء الرجال حكمتهم ويأتون قدام الله متضعين – وعلى هذا الأساس. هو تعالى لم يطردهم، بل أرادهم أن يقتربوا إليه بالطريقة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن يأتي بها، أي بواسطة الذبيحة فليأخذوا سبعة ثيران – رمز الخضوع التام والخدمة حتى الموت، وسبعة كباش – برهان تكريس النشاط كله، ويصعدوا محرقة، وهل ينسى الرب أيوب المسكين الذي ساءت به الظنون؟ كلا. إنه يشفع في هؤلاء لئلا يحصدوا ثمر حماقتهم "لأني أرفع وجهه". ما أكمله تعنيفاً! ما أسخاه وأكرمه رجوعاً! وما ألطف وأرق اشتراك أيوب في هذا جميعه!
ونحن الذين نملك نور نعمة الله الكامل، ما أبدع الصورة التي نراها هنا، والنعمة البارزة فيها، لقد خفضت كرامة الإنسان، والسامي في تقديره قد عدّ حماقة وهو نفسه قد تحول عن ذلك كله – عما فيه من خير وما فيه من شر – إلى المحرقة، إلى ذاك الذي هو بديلنا الكامل – كل الكفاية، فمن زاوية رمزية – الثور – نراه له المجد في كل قوة الخدمة المتواضعة "طائعاً حتى الموت، موت الصليب" ومن زاوية رمزية – الكبش – نرى تكريس النشاط الذي ينتهي به إلى "ذبيحة الفضلى" وهنا نتساءل: أين البر البشري وطاعة البشر من الصليب العجيب؟.
ولاحظ أنه لم يُطلب من الأصحاب تقديم ذبيحة خطيئة، ولو أن المحرقة تتضمن نزع الخطيئة، ولا ذبيحة سلامة، ولو أن المحرقة ندعو إلى أسمى شركة بل محرقة، وهي التقدمة الأولى الكبيرة التي هيأها الله في طرقه الحكيمة في أزمنة الآباء، تلك الذبيحة التي كلها لله. لذلك استطاع ذاك الذي أتى ليلغي كل ذبيحة وتقدمة أن يقول "هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله.. فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عبرانيين 10: 9، 10).
ويرتبط بهذه الذبيحة الكلية القيمة شفاعة الرجل الذي أتقن درسه والذي – في الرمز – لم يعد يفتخر إلا بالصليب. لنتصوره واقفاً، يده بأيدي أصحابه وهم يعترفون بخطيئتهم وهو يشفع فيهم. منذ قليل اتهمهم بأنهم "معزون متعبون كلهم". أما الآن فلم يعد هذا الاتهام العنيف يضربهم، كلا ولا تلك التهكمات المريرة مثل "صحيح، إنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة". أجل، فالمتهكم ومتهكموه كلهم يتحولون أحدهم عن الآخر، إلى المحرقة، ليجدوا قبولهم جميعاً فيها.
"هكذا أخفي حياء وجهي، عندما تجلو هيئته المباركة". ويتحلل قلبي شكراً، وأذيب عيني دموعاً، إنه لذو دلالة واضحة أن يختم السفر – كما بدأ – بالمحرقة. أجل، فالمسيح هو النهاية وهو البداية "المسيح هو الكل".
- عدد الزيارات: 16932