Skip to main content

الإصحاح السابع والثلاثون: طرق الله في الطبيعة

يأخذ أليهو أمثلة من السماء في يوم عاصفة ليكشف لأيوب عن حالة نفسه وطرق الله نحوه (انظر 36: 27-29، 32، 33، ص 37: 2). إن السحب المعتمة تصور الحداد والتجارب التي حجبت إلى حين عن أيوب نور وجه الله. ومن الصعب على القلب الطبيعي أن يدرك موازنة السحاب (ع 16) ولكن يجب أن يعرف أيوب أن هذه السحب حملها الله بماء بركة له (ع 11، ص 26: 8) لأن المطر يمكن أن يسقط بعدة طرق، للخير للأرض (مزمور 65: 10) أو على عكس ذلك كتأديب، كعصا (ع 13، قارن مزمور 148: 7، 8).

وهي تنزل في قطرات فائضة تأتي بالخير (ص 36: 27-28). أو كوابل مخصب (ع 6) أو على عكس ذلك في سيول غامرة – أمطاراً غزيرة – تتلف الأرض دون أن تدخل فيها، في هذه الحالة الأخيرة تكون بمثابة دينونة. بدون تأثير على النفس ولكن ليس هذا هو فكر الله نحو عبده أيوب.

إنه يريد أن يباركه لذا يؤدبه بحساب (أرميا 10: 24) وتجعله يقول مع المرنم: لو أن سحابة جاءت تسلبني جمالك. يا صديقي الإلهي بعد العاصفة، كما قبلها يلمع نورك (قارن ع 21).

* * *

يمكن تقسيم الإصحاح للأجزاء التالية:

(ع 1- 5) الإنسان التافه في الإعصار.

(ع 6- 10) يده على الإنسان في الشتاء.

(ع 11- 16) العواصف وآثارها المتنوعة.

(ع 17- 24) الخاتمة.


(ع 1- 5) الإنسان التافه في الإعصار.

"فلهذا اضطرب قلبي وخفق في موضعه.. الخ"

هذا شيء مختلف عن الكلام الذي ختم به الإصحاح السابق، عن اضطراب المواشي قبل الرعود، من مجرد غرائزها الطبيعية. والآن عاصفة الرعد، صوت مسموع في الرهبة والقوة، تستعرض في البرق، وأليهو في وصف مفعم بالحيوية يرتعد، ويرتجف ويدعو أيوب أن يستمع إلى صوت الله فيها جميعاً، ونحن ألا نستمع إلى صوته تعالى في عاصفة الحزن التي وقعت عليه؟ ضربة الذل البارقة العنيفة. رعد تأديبه المخيف، حلّ به شقاً شقاً. ذلك أن الله كان يعمل عجباً، أشياء تفوق إدراكنا، لكن هو الله "كفوا، واعلموا أني أنا الله".


(ع 6- 10) يده على الإنسان في الشتاء.

إذا كان تساقط الجليد يغطي الأرض مثل أكفان الموتى، وإذا كانت يد الشتاء الثلجية توضع على الإنسان لتشلّ نشاطه – فذلك ثلجه وجليده تعالى، وتلك يده تعالى، ليعلن للإنسان اقتداره السامي – والحيوان يعتزل متراجعاً إلى مخبئه وكأن لسان حاله يقول: لنختبئ نحن أيضاً.. "في محاجي الصخر" حتى تعبر الكوارث. وسواء أتت العاصفة في إعصار الجنوب، أو من منطقة الشمال المتجمدة، فما هي إلا نسمة القدير. فخير لنا أن نتواضع تحت يده القوية.


(ع 11- 16) العواصف وآثارها المتنوعة.

"من الجنوب تأتي الإعصار.. الخ" هذا كله يبين للعيان سلطان الله المطلق. وإذا كان هذا صحيحاً فيما يتعلق بالأشياء الطبيعية، أليس هو أكثر لزوماً في الأشياء الروحية.

"سواء كان للتأديب أو لأرضه أو للرحمة يرسلها". للتأديب وهو نفس الغرض من معاملات الله مع أيوب.

يستمر أليهو في وصف كمال طرق الله في الطبيعة، الثلج والمطر ورياح الصيف الحارة، وصقيع الشتاء القارس وتكوين الثلج بنسمته، والعواصف، الكل في يديه وتحت سيطرته. أنصت إلى هذا يا أيوب، أنصت. قف وتأمل عجائب الله!!

كل مظاهر القوة الإلهية هذي إنما لإتمام مشيئته. "سبحي الرب.. النار والبرد: الثلج، والأبخرة، الريح العاصفة الصانعة كلمته" (مزمور 148: 7، 8). أحياناً قد تكون "كالسوط الجارف"، وأحياناً "تعهدت الأرض وأرويتها: تغنيها جداً" (مزمور 65: 9)، لكنه أبداً هو الله الذي أعماله وخططه وأغراضه قدام عين الإيمان. ألا فلينسى أيوب نفسه ومتاعبه وأصحابه "ليقف ويتأمل عجائب الله!" هل يستطيع أن يعلل ويفسر هذه الأغراض؟ هل يدرك النور الذي يضيء من خلف السحب؟ حقاً هي أقوال غاية في البساطة فكما أن الطبيعة متوازنة، كل قوة تعدل الأخرى في كفتها، كذلك في سحب الحياة هناك موازنة إلهية.

"مع التجربة يعطي المنفذ". كل الأشياء تعمل – لكنها تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. نعم، فهناك موازنة للسحاب.


(ع 17- 24) الخاتمة.

هكذا نعبر إلى "ختام الأمر كله". من هو أيوب؟ ما هو أيوب، إلا إنسان عاجز تضغطه ثيابه عند هبوب الريح الجنوبية؟ أيستطيع أن يبسط الجلد الذي – كمرآة لامعة – يعلو فوق رؤوسنا كالمقبب؟ ثم يواصل أليهو، فيتكلم بلسان المتضعين. وكأنه يقول: قد شرعنا نتكلم ونحن بعد تراب ورماد "لا نخشى الكلام بسبب الظلمة". فخير لنا أن نسكت أصواتنا ونصغي إليه!.

ولئن كنا لا نرى إشراقة الشمس خلف السحب، لكنها هناك، وفي الوقت المناسب تتبدد الغيوم وتنقشع. وهنا حضرة مخيفة، ومضة ذهبية من الشمال المجهول المستور. "فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال، وسحابة عظيمة ونار متواصلة (أو ملتفة، ملفوفة) وحولها لمعان. ومن وسطها كمنظر (أو لون) النحاس اللامع (أو الكهرمان)" (حزقيال 1: 4) هو القدير، ونحن لا نستطيع أن ندرك عظمته، غير أننا نعلم أن استقامته عظيمة كقوته. فلننحن قدامه سجوداً، إنه لا يستمع لأولئك الحكماء في تقديرهم.

"إني أسمع ما يتكلم به الرب، لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولأتقيائه" هو هنا.


معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح السابع والثلاثون

ص   ع          الكلمة                       معناها

37: 2          الزمزمه      :     صوت يدوي من بعيد – ضجيج الرعد.

37: 3          أكناف      :     الكنف - الجانب.

37: 7          يختم         :     يضع علامة.

37: 8          أوجرة       :    حفر تجعل للوحش.

37: 9         من الجنوب  :    تأتي الإعصار وهو العاصفة أو الزوبعة ويشار بالإعصار في العهد القديم عادة إلى قضاء الله الذي يجريه على الأرض.

37: 9         الشمال      :    كما قيل عن الجنوب أو منه يأتي الإعصار قيل عن الشمال يأتي منه البرد وكان القدماء يعتبرون الشمال منطقة قتام وظلام.

37: 9          البَرَد       :    هو قطع من الثلج تسقط من السحب وكأنها حجارة ساقطة من السماء والرب في غضبه يستخدم البَرَد كضربة عظيمة يضرب بها الناس والبهائم والزرع (خروج 9: 18-34، مزمور 78: 47، 48، 105: 32) وأحياناً يكون البَرَد مصحوباً بنار – وقد ضرب الرب العمالقة بحجارة عظيمة من السماء (يشوع 10: 11) وسوف يكون البَرَد أحد الضربات التي سيضرب بها الرب العالم الأثيم بعد اختطاف الكنيسة (رؤيا 8: 7، 11، 19، 16: 21).

37: 10        الجمد       :    الجليد.

37: 11         ريّ        :    الماء الكثير المروي.

37: 13        سواء        :    (ص 24: 17).

37: 16        موازنة      :     وزن السحاب بالميزان.

37: 18        صفحت    :    صفح الشيء جعله عريضاً وطوّله.

37: 18         المرآة      :    صفيحة من المعدن المصقول تشبيه للجلد.

37: 24         يراعي      :    يلاحظ أو يراقب.

 


 

القسم الرابع

الإصحاحات

من الثامن والثلاثين

إلى الثاني والأربعين (عدد 6)

شهادة الرب من الخليقة

وامتحان أيوب

وإحداره إلى التراب


 

مقدمة القسم الرابع

لقد ألفتنا نظر القارئ من قبل إلى الرابطة الوثيقة التي تقوم بين خطابات أليهو وبين أقوال الرب التي ندخل الآن في رحابها. وهو قسم لو نظرنا إليه باعتباره قطعة من العمل الأدبي لوجدنا فيه جمالاً وعظمة لا نظير لهما. لقد بدأ أليهو خطابه وقوراً وهادئاً. أدار مناقشته وأدلى بأسانيده بطريقة متقنة، وبسلطان، ليقنع الذهن والضمير. ونحسب، من الصمت الذي ران على أيوب رغم تكرار الدعوة إليه أن يجاوب، أن الحجج التي عرضها أليهو لم تفشل فيما أعدت له. ثم يستطرد أليهو فينتقل من الأسلوب التعليمي الإرشادي إلى الأسلوب الوصفي، كاشفاً عن حكمة الله وعظمته كما تبدوان في خليقته الضخمة. خذ مثلاً أوصافه للإعصار: لقد كانت من الوضوح بحيث لم يسعنا إلا أن نتصورها وشيكة الوقوع فعلاً. فومضات البروق وزمجرة الرعد تملأ نفسه رعباً ورجفة، بينما القطعان الجافلة تبدي خوفها القاتل.

غير أن ومضة ذهبية تمرق من خلال سحب الشمال العاصفة. وفي بعض كلمات في إطار من الرهبة تذكّر أيوب بصلاح الله وجلاله ويختم أليهو خطابه، ومن خلال العاصفة التي قرأنا وصفها تواً، ينطلق صوت يهوه راوياً رهيباً.

صوت يهوه! لسنا بعد نصغي إلى تخبطات العقل الطبيعي كما في أحاديث الأصحاب، ولا إلى الصرخات الزاعقة من شفتي إيمان جريح، كما في أيوب، حتى ولا أسلوب أليهو وكلامه الجلي الوقور. إنما نحن في حضرة الرب نفسه، وهو الذي يكلمنا. ذلك الصوت – لا ننسى – جعل أبوينا المذنبين يختبئان خلف أشجار الجنة. وأمر موسى أن يخلع حذاءه من رجله عند العليّقة المتوقدة، وهو بعينه الذي فيما بعد جعله يصرخ: "أنا مرتعب ومرتعد" وسط أهوال سيناء، بينما تباعد الشعب إلى مسافة قصيّة. وفي سياق التاريخ على مداه جاء الصوت بعينه هادئاً لا هادراً "صوت منخفض خفيف". تسلل رهيباً إلى نفس إيليا. يوم أيقن أنه كان واقفاً قدام الرب.

والصوت يبدو أنه يعلن عن شخصية صاحبه أكثر مما يفعل مظهره ولو أننا رأينا هيئة إنسان وما ملامحه، وراقبنا تغيرات طلعته وتقلبات إشاراته – دون أن نسمع صوته – لانطبع في إحساسنا أننا في ظروف غير عادية. وهكذا صار مع الصوت الذي جاء إلى أيوب من العاصفة حيث أدخله في حضرة من كان حتى الآن يجهل صفاته جهلاً فاضحاً. صحيح أنه كان قد تكلم عن الله أموراً شريفة لكن حضوره الفعلي لم يكن معروفاً بعد. وهذا – كما سنرى – مفتاح التغيير المدهش الذي تبدّى على أيوب.

إذا ما أدركنا الله شخصياً كحاضر معنا، فإننا ندركه حينئذ في كامل ذاتيته. فليست القوة فقط هي التي نراها، ولا العظمة، ولا حتى صلاحه تعالى، بل ذاته، شخصه الكريم، ذاك الذي في حضرته يغطي السيرافيم وجوههم إذ ينادون: "قدوس – قدوس – قدوس".

عند بحيرة الجليل في (لوقاه) رأى بطرس لمحة منه فصرخ "أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ". وبفعل هذا الإعلان ذاته سقط بولس على الأرض كما سقط يوحنا من بعد، في مشاهد سفر الرؤيا. لقد كانت المظاهر الخارجية في تلك الحالات جميعاً متغايرة: من صورة إنسان متواضع في سفينة صياد، إلى جلال يملأ العرش والسموات. غير أن الحقيقة الجوهرية هي أنه بذاته، وإنه مهما يقنّع مجده ويحجبه، ومهما يكن من أمر ملاقاته للإنسان بالرحمة والنعمة، إنما هو بذاته الله الذي يتكلم الذي يعمل. وما لم يتحقق هذا، فلا عظمة الموقف، ولا جلال الظواهر الطبيعية، تستطيع أن تنقل رسالته للإنسان.

وهذا شيء واضح بطريقة مؤسفة، في الكيفية التي بها يستخدم الناس منظرة الطبيعة الهائلة، تلك المنظرة المبسوطة أمام عينيه كل يوم. فالسموات، بوصفها خيمة لا حدّ لسعتها قائمة فوق رؤوسهم كمقبب، تتألق نهاراً وليلاً، وزينة الغيوم، وجلال الجبال الشوامخ، وجمال الغابات والأحراش، والوعر والبحر – بم تتحدث هذي جميعاً إلى شخص لا يسمع الصوت؟ فالوثني يصطنع تمثاله، أو يسجد للشمس والقمر، ورجل العلم يمسح السموات بمنظاره التلسكوبي، ويخترق دفائن الأرض بمجهره الميكروسكوبي، هو يحدثنا في دراية علمية وشغف عن نواميس الطبيعة والكيمياء، عن الجاذبية، والتماسك والتزاوج، ولكنه ما لم يسمع صوت الرب، فإنه لا يزيد في معرفته إياه – تبارك اسمه – عن الوثني الناعس المخدوع الذي يتذلل أمام "فيشنو" المخيف.

إنما هو جهل إجرامي "لأن أموره عن المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات، أي قدرته السرمدية ولاهوته، حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه كإله ولا كانوا شاكرين.." (رومية 1: 18-25). وكل الناس يحسون – بدرجة ما – بهذه الجريمة وبالانفصال الأدبي عن الله، ورغبتهم للبقاء في تلك الحالة. ذلك أنهم يوصدون آذانهم دون صوت ذاك الذي عن كل واحد منا ليس ببعيد.

إن كان هذا هو الفكر الغريزي عن هذا الإعلان الشخصي لله، فكم كان هاماً وخطيراً لأيوب أن يمسك به، ونحن الذين نتحدث عنه، كم هو محتم أيضاً أن نتحقق من صوته، صوت ذاك الذي مابرح متحدثاً إلينا في الطبيعة ومن خلال كلمته. فليكن هنا لا أن نعتزل ونختبئ بين أشجاره الجميلة، بل أن ندنو بأرجل غير منتعلة ووجوه مغطاة ونستمع إلى ما يقصد الرب الإله أن يكلمنا به.

لو أننا ألقينا نظرة على أقوال الرب في مجموعها لحقّ لنا أن ندهش من الطابع الذي يميزها فهي – بمعنى ما – ليست أقوالاً عميقة من حيث كشف أعماق الحقائق اللاهوتية. كما أنها ليست تعليمية مطابقة بالمعنى الأدبي من حيث أنها تفرض على الإنسان واجبه. ولا هي كذلك إعلان للحق كامتحان لأيوب إذا كان يعلم الحقائق الكامنة من حوله في خليقة الله الواسعة. إنما هذا هو الذي يجعل أقوال الرب عجيبة: فهو تعالى يتكلم ليس "بلغة" غامضة "عن الإدراك".

الجزء الذي نتناوله الآن هو الرابع عدداً كما في رأس المقال، وهو عدد يناسب مضامين الجزء كله. الرقم (4) كما نعلم هو رقم الخليقة، كما أنه قد يشير إلى اختبار أو امتحان الإنسان، وإلى العجز والخيبة الذين يخلفهما الاختبار. فكم يذهلنا أن الخالق العظيم – يحجب مجده – ذلك "النور الذي لا يُدنى منه" ويظهر ذاته في أعمال يديه.

ولعلنا لا نعدد الوقار والتوقير لإلهنا حينما نقول أن الخليقة ذاتها صورة من الاتضاع الإلهي. فإنها تذكرنا بذاك الذي، وقد "كان في صورة الله"، أخلى نفسه وأخذ صورة عبد، إذ صار في شبه الناس. الخليقة هي "الشبابيك" (أي شيش النافذة) الذي يخفي الحبيب ذاته من خلفها. على أنه هكذا يعلن نفسه للإيمان. إن أقمطة المحيط التي تحزم حدّه ليست إلا تشبيهاً لتلك الأحزمة التي أخذها على نفسه ذاك الذي صنع كل شيء يوم صار جسداً. والكون بأسره، ضخماً بلا حدود، إنما هو بمثابة ثياب للإله المطلق الذي يعلن ذاته هكذا.

وكذلك نستطيع أن نطبق قسمنا هذا الرابع على شخصه الكريم فهو "اتضع لينظر ما في السموات وما في الأرض" (مزمور 113: 6) ودلالة الرقم تشجعنا على الإيمان بأنه يدنو منا، وأن رسالته إلينا هي رسالة الرحمة.

على أن هذه الرسالة تمتحن الإنسان وتذله. فالشخص الذي يفخر ببره. ويبدو كأنه يحسب معرفته كافية كل كفاء سيُرغم على الاغتراف بجهله وعجزه وإثمه وفجوره. وقد تم ذلك إلهياً. وتم بطريقة قاطعة بحيث أن الدرس أوقف أيوب في مكانه الصحيح كل الزمن. والخليقة، مرة أخرى، هي مثل الطين الذي طلى به الرب عيني الأعمى. احتذاء به يستطيع أيوب أن يقول "الآن رأتك عيني".

إن الله يضع يده على خليقته الواسعة. السموات والأرض والبحر – وكأنه يقول إنه سيد ورب الجميع، وكأنه يقول لأيوب "أوَ ترتاب في قوة هذا الخالق أو في حكمته؟ أوَ ترتاب في صلاح من يرسل مطره ليمنح الأرض خصوبة لحاجة الإنسان؟ أو أمانة من يهدي مراحمه لمخلوقاته يوماً فيوم؟

من شأن هذا أن يقودنا للتساؤل عما إذا كنا نتوقع معنى أعمق لهذه الأسئلة أو المسائل المرتبطة بالطبيعة – أي ما إذا كانت هناك دلالة أدبية أو روحية تنطوي عليها. أن الخليقة مثل ضخم، نفشل في التقاط دروسه إذا لم نعثر كما قلنا من قبل على الحقائق الرمزية الغنية الكامنة تحت السطح. ونحن هنا لا ندعي الاستبداد في عرض الآراء فكل ما نقوله خاضع للتعديل والتصحيح، غير أننا لا نتردد في القول بأننا يجب أن نبحث عن معاني الله السرية الكامنة في أعماله وأفعاله.

ويشجعنا على ذلك أنه قال "من يطلب يجد" ولكن لنتناول موضوعنا بطريقة مرتبة.

إن شهادة الرب هذه يمكن أن تنقسم قسمين رئيسيين، يتميز أحدهما عن الآخر بالتجاوب الذي يظهره أيوب لكل منهما.

1- الخصائص الإلهية كما نراها في الكون (ص 38 – ص 40:5).

2- سيطرته تعالى على خلائقه (ص 40: 6– ص 41: 34).

كل واحد من هذين القسمين يتميز بطابعه الخاص بينما يرتبط الاثنان معاً برباط وثيق. فأولهما – بصفة عامة – يتناول قوة الرب وحكمته وصلاحه، ظاهرة في أعمال الخليقة والعناية، وفي الآخر نجد سيادته تعالى على تلك الوحوش الغير المروضة التي تتحدى وتناوئ قوة الإنسان. والخطاب إجمالاً قد جاء بأسلوب السؤال. لقد حسب أيوب نفسه في مركز الحكم على الرب وعلى طرقه. وهنا اختبار لكفايته: فما الذي يعرفه؟ ما الذي يستطيع أن يفعله؟ فهل المخلوق، ذاك التافه قوة، الجاهل، المليء – مع ذلك – كبرياء جوفاء: هل له أن يزعم نفسه معلماً لله من حيث واجباته، يكشف له أخطاءه تعالى، وليسلبه – في الواقع – كل امتيازاته؟ ومن الجوابين الذين نطق بهما أيوب نلمس أثر محاجاته الرب أسئلته، ففي رده الأول حقر نفسه ووضع يده على فمه وفي الآخر يقر إقراراً كاملاً بكبريائه الخاطئة ويرفض ذاته، وبهذا يعد الطريق لاسترداد مركزه ورجوعه إلى الرخاء والنجاح.

نستطيع أن نقول أن الجزء الثاني من خطاب الرب قد أفرده لإذلال كبرياء أيوب حين وضع أمامه المخلوقات التي تتجلى فيها هذه الكبرياء بطريقة رمزية.

ونلاحظ أن الحديث الأول (ص 38، 39) فيه صور الله لأيوب قدرته العظيمة التي تظهرها خليقته: الأرض والبحر، الثلج والمطر، الثريا والجبار.. ولكن خليقة الله لا تعلن لنا قدرة الخالق فحسب، بل تعلن أيضاً رحمته. تلك الرحمة التي تظهر في اعتناءه بأدنى المخلوقات، حتى "فراخ الغربان" وبأقلها فهماً "النعامة" أيمكن إذاً أن يكون هذا الإله القوي الرحيم هو سر تعب الأبرار وشقائهم؟ محال.. فمن يكون إذاً مصدر هذا التعب؟

أعتقد أننا في الحديث الثاني للرب نجد الإجابة. فالرب بعد أن ذكر لأيوب قوة الشر والأشرار (ص 40: 11) أسهب في وصف حيوانين هائلين بهيموث ولوياثان. وفي هذين الحيوانين نجد تصويراً عجيباً ودقيقاً للشيطان سر البلاء والشقاء – ومما يقوي فينا الاعتقاد بأن هذين الحيوانين هما تصوير إلهي للشيطان – أننا لا نجد في الخليقة ما يشبهها بين الحيوانات. ولو كان المقصود من ذكر هذين الحيوانين هو فقط توضيح قوتهما بالمقابلة مع ضعف أيوب لما كانت هناك إضافة تذكر على ما سبق أن قاله الله في حديثه الأول عندما تحدث عن الأسد، وعن الثور، وعن الفرس وعن النسر.

ثم لماذا كانت الحاجة لهذا الفاصل بين الحديث الأول والثاني (ص 40: 1-5)؟ إننا نعتقد أن فكرة جديدة الآن يريد الرب توضيحها أبعد من مجرد تصوير قوته ورحمته التين كانتا موضوع حديثه الأول. إذ يصور هنا عدو الله والإنسان، ذلك العدو الرهيب. سر التعب والتشويش في كل مكان، ورمز القوة والكبرياء، مصوراً بهذين الحيوانين، بهيموث، ولوياثان .

إصحاح 42

ثم تكلم أيوب أخيراً:

لكم تكلم أيوب طوال السفر، لكن كلامه هذه المرة (ص 42) مختلف، بعد أن تنازل الرب وتحدث إليه بنفسه. "فقال أيوب للرب. علمت أنك تستطيع كل شيء. ولا يعسر عليك أمر". وهكذا علم أيوب أخيراً أن الله في قدرته أن يمنع الشر قبل وقوعه لو أراد. فحاشاه أن يكون مثلنا أضعف من الشرير (ص 40: 11، 12، 41: 10)، لكنه ليس كلي القدرة فقط، بل كلي الحكمة أيضاً. وعندما نتدخل بأفكارنا المحدودة في أفكاره العالية ننطق بما لم نفهم، بعجائب فوقنا لم نعرفها. فمعرفة الله ارتفعت فوقنا، وهي أسمى من إدراكنا (مزمور 139: 6) وكما أن معرفة الله عجيبة فإن أعماله أيضاً عجيبة، وهو لا يخطئ قط (مزمور 139: 14).

وعن قريب سيتم القضاء. قضاء الرب الرهيب على لوياثان هذا "بسيفه القاسي العظيم الشديد (إشعياء 27: 1) إشارة إلى قضاء الرب على قوى الشيطان، بل وعلى الشيطان نفسه "في ذلك اليوم" أي يوم الرب. كما نفهم من كلمة الله.

عند ذا نهديك شكراً                أيها الرب يسوع

قائـلين هللـويـا                       وستمسح الدموع

نعم، عند ذلك سنقول مع المرنم "ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنعت". كلها بما فيها لوياثان هذا الذي خلقته ليلعب في البحر الكبير (مزمور 104: 24-26). دعه إذاً ليلعب دون أن تنشغل به. فإن "الرب في العلى أقدر" (مزمور 93: 4).

  • عدد الزيارات: 14103