Skip to main content

الإصحاح الخامس والعشرون: الخطاب الثالث لبلدد - عظمة الله

الصفحة 2 من 4: عظمة الله

(ع1-3) عظمة الله.

الآن نأتي إلى بلدد. وهنا وكأن أنفاسه قد تقطعت، فأصبحت لا تطاوعه على كثرة الكلام. إن حديثه في هذه المرة في غاية الاختصار، بل هو في الواقع حديث قصير جداً ولا علاقة له مباشرة بأيوب. والواضح أن الأصحاب الثلاثة قد وجدوا أنفسهم مضطرين للتسليم، وبلدد. وهو الثاني منهم، هو الذي يتغنى الآن بمجد الله ويشيد به. وهي في الحق أنشودة رائعة وتعبر عن حقائق خالدة ولو أنها لا تنطبق إطلاقاً على الحالة التي نحن بصددها. لنسمعه يقول: "السلطان والهيبة عنده. وهو صانع السلام في أعاليه (أو أماكنه العالية)".

نعم، ولكن ما كان يُتعب أيوب أنه لم يكن له شيء من السلام في مكانه المنخفض، بل كل ما كان يعانيه هو هذا الإذلال المريع والألم الشنيع دون أن يعرف له سبباً.

"هل من عدد لجنوده؟" هذا كله حق، ولكن هل من تعزية لأيوب في هذا أو جواب على حيرته؟.

"وعلى من لا يشرق نوره"... وقد يكون في هذا إشارة ضمنية. بل أيوب كان مخطئاً كل الخطأ لأنه لم يكن متمتعاً بالنور الذي لم يكنه بلدد؟. والحقيقة أن بلدد كان هادئاً، لأنه لم يكن مجرباً، ولذلك كان في استطاعته أن يتحدث بهدوء وبكلام معقول. ولكنه لم يكن يفهم أيوب على حقيقته.

من ذا الذي يستطيع أن يعلن عظمة الله المطلقة، الذي يملأ السماوات والأرض. ويسمو على كل خليقته الغير المحدودة. "هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك". على أنّ هذه اللانهائية ليست بلا قوة: فهو يملك على كل شيء، والحكم له.

وكم هو خليق بنا أن نقف ونتأمل في كثير من روعة الورع، في جلال الله وسلطانه وقدرته "من كال بكفه المياه وقاس السماوات بالشبر وكال بالكيل تراب الأرض ووزن الجبال بالقبّان والآكام بالميزان...الجالس على كرة الأرض....الذي ينشر السماوات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن....ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه، من الذي يخرج بعدد جندها، يدعو كلها بأسماء. بعظمة قوته، وشدة قدرته لا يفشل واحد" (اشعياء40: 12، 22، 26).

أيها الإله العظيم، كم أنت سرمدي غير محدود.

أما نحن، فمن نحنن سوى اعجز وافسد الدود.

من ذا الذي لا يخشى كائناً سرمدياً كهذا؟ وفي آن معاً، يا له برهاناً مرعباً على حالة الإنسان المرتدة الساقطة، التي يعوزها خوف الله. فإن ذاك الذي أمامه يغطي السرافيم وجوههم، يتجاهله ويجدف عليه خطاة تافهون.

"هو صانع السلام في أعاليه" أن تلك الأفلاك السماوية ليست تعلن قوته فحسب بضخامتها، بل إنها تعلن حكمته تعالى ومهارته في التوافق والانسجام الذي تتابع به مسالكها المعنية. ومتماسكة معاً في مداراتها العظيمة بما يفوق التفكير – متماسكة بذاك الذي خلقها. "لا يفشل واحد" لا تعارض، لا اصطدام – كلهن ينشدن لحناً واحداً وهن يعلنّ مجده.

"على المدى ينشدن وهنّ شارقات

إلهية تلك اليد التي صنعتنا".

والأجناد الملائكية كذلك، المتحدة مع "كواكب الصبح" هذه، هي في سلام، في رأي واحد يفعلون "أمره عند سماع صوت كلامه". فلا خصام ولا تعارض بين تلك الكائنات المترفعة، الكل مصون في سلام. وحتى لو فكرنا حالتهم الأولى، فإن الله المقتحم يوم هوى الشيطان من أعاليه، ويوم لم يحفظ الملائكة حالتهم الأولى، فإن الله لم يتعطل، وعرشه لم يتزعزع. أما الملائكة المتمردون فقد حفظوا في قيود الظلام ولئن كان الشيطان قد مُنح بعض الحرية بصفة مؤقتة، فذلك إنما لفترة محدودة. وسيأتي الوقت الذي سيُطرح فيه من السماء، ويقيد ويطرح في الهاوية، وأخيراً ومع جميع مشايعيه سوف تشيعه النقمة الإلهية، هو وهم، إلى بحيرة النار. ويومئذ يتوفر السلام إلى الأبد في الأعالي.

وبين الأجسام النجمية يبدو دليل على حدوث تصادم بين بعض الكواكب أو الأجرام. ولكن هدأت الحال، ووجد كل جرم مكانه اللائق. الكل صار في سلام. وفي يوم ما ستمضي بضجيج السماوات التي حولنا. لكنا "بحسب وعه ننتظر سماواتٍ جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر". وهكذا. وفي آخر المطاف، سوف تؤيد الخليقة كلها قولة بلدد هنا "هو صانع السلام في أعاليه".

"هل من عدد لجنوده؟". إن سيدنا العزيز كان يمكن بكلمة واحدة أن يأخذ "أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة". ومكتوب أيضاً "وعددهم ربوات وألوف ألوف". "ربوات هم محفل ملائكة". فأين من هذه الحشود الحاشدة جيوش الناس؟ لقد طلب النبي مرة أن تُفتح عينا عبده ليرى الجبل مملوءاً خيلاً ومركبات نار". (2ملوك6: 17).

"الله نور". وجنوده أجناد نور، يلمعون في مجد ليس منهم، "وعلى من لا يشرق نوره؟" أو "من ذا الذي لا يسمو عليه نوره؟" فليحاول أي من شاء من بني الصبح هؤلاء أن يزدهي بنفسه، وعندئذ ومن نوره سيخبو إشراقه "أفسدت حكمتك بسبب بهائك" (حزقيال28: 17).

أما عن الله فينبغي أن نقول إلى الأبد "الساكن في  نور لا يدنى منه" فإن نوره يسمو على كل خلائقه مهما ارتفعوا. أنه يعلو شارقاً ويزيد بغير حدود على نور أكثرهم بهاءاً. وهذا المعنى ينطبق بالأكثر على ترجمتنا لهذا العدد منه على الترجمة التي بين أيدينا "وعلى من لا يشرق نوره؟".

خواء الإنسان
الصفحة
  • عدد الزيارات: 11206