Skip to main content

الأصحاح الثلاثون

كان ينبغي أن تظهر نعمة الله ولكن بالاقتران مع قداسة الله، لا يمكن فصلهما، وهذا يعني أنه بالاقتران بالنعمة ينبغي أن يكون هناك التأديب. كان ينبغي أن داود يعرف حالته تماماً، وفي طريق ذلك حدثت غارة من الجنوب، من الناس الذين استعلن الله دينونته ضدهم، وفي طريق تأديب داود أّحرقت صقلغ بالنار، لم تكن فيها وسائل دفاع، وأّخذ كل ما كان فيها، وكان العمالقة هم الآلة المستخدمة من الرب لتأديب عبده، وكلمة عماليق تشير إلى شهوات الجسد، وحين تكون النفس بعيدة عن الله لا بد أن يغزوها عماليق وتثور شهوات الجسد ويتصرف الإنسان كما يحسن في عينيه، ولكن تُرد النفس المؤمنة في النهاية بتوسط النعمة.

عرف داود أن يد الله امتدت على كل ما هو غالٍ في نظره إذ حين رجعوا إلى المدينة لم يجدوا سوى حُطامها وأن نساءهم وأولادهم قد سبوا، وكان ينبغي أن يعرف داود أنه حين لا تكون هناك رابطة بينه وبين الله فإن الرابطة تُقطع أيضاً بينه وبين الناس إذ أن رجاله المُكرسين له قالوا برجمه وهم في مرارة المر على زوجاتهم وأولادهم، واعتبر داود مسئولاً عن البؤس الذي أصبحوا فيه بالتجائه إلى الفلسطينيين، وكان الناموس يحكم بالرجم على الشخص الذي يتسبب في إهانة اسم الله (لا 24: 16) أو الذي يقود الشعب إلى عبادة الأوثان (تث 13: 6- 11). وهنا بدأ داود يذوق مرارة طلبه مساعدة أخيش في يوم حاجته إذ يتحتم عليه الآن أن يشارك الفلسطينيين في خسارتهم لأنه اتخذ مقامه بين الغلف. لو كان قد بقي في جبال يهوذا لنجا من كل هذه الأحزان وصار له الله سور نار حوله ولكنه فر إلى صقلغ، هرب من شاول. وكانت النتيجة المُرة أنه بينما كان شاول يسقط على جبل جلبوع كان داود يبكي على أطلال صقلغ.

ولكن داود تشدد بالرب إلهه، وهذا هو الفرق بين داود وشاول الملك، لأن الضيقات وتأديب الرب تَرد المؤمن إلى الرب.

كان داود رجل الإيمان الذي عرف الرب ونعمته الفياضة الأمر الذي كان سبباً في طمأنينته في هذه الحالة المظلمة جداً من حياته، فألقى حمله الثقيل على هذه النعمة ولولا ذلك ليئس وفشل لأنه في كل حياته لم يُجرَّب بمثل هذه التجربة. فالإيمان وحده يعرف أن لكفاية في الله الكفيل بسد كل حاجات البشرية من ضعف وسقوط وألم وخطية. لكن الإنسان بحسب الطبيعة يخور ويصبح في حالة اليأس والقساوة.

وعندئذ استدعى داود أبياثار الكاهن وسأل من الرب وقال "إذا لحقت هؤلاء الغزاة فهل أُدركهم" فقال له "الحقهم فإنك تدرك وتنقذ".

كانت الأمور تشير على داود أن يذهب فوراً وراء الغزاة، ولكن رجل الإيمان داود لم يسر وراء مشاعره الطبيعية وسأل حين كان كل شيء واضحاً، وكان الرد سريعاً بدون كلمة توبيخ واحدة "تدرك وتنقذ" وإذا كان الله يقبل سريعاً الخاطئ الراجع (لو 15) فكم بالحري المؤمن الراجع إليه وهو في حالة رد النفس والتوبة.

وعلى الفور كان داود رجل النشاط- الرجل الهمام الشجاع قائد الرجال، وفي وقتٍ قصير جاء إلى وادي البسور، ولكن جيشه الصغير أصبح في حالة إعياء من السرعة التي ساروا بها، وكان عدد القادرين عن الحرب رغم إعيائهم أربعمائة رجل، أما باقي الرجال فقد أصبحوا عاجزين عن السير، وكانت المعركة للرب وليست لهم، ووقف مائتا رجل عند الأمتعة.

وفي أثناء سيرهم إلى المعركة وجدوا رجلاً مصرياً في حالة إعياء من الجوع والعطش قريباً من الموت، ورجعت نفس الرجل بتقديم الطعام والماء إليه مع التأكيد له أنه لن يرجع إلى سيده العماليقي، وهذا الرجل وهو في حالة الموت يشير إلى الإنسان بحسب الطبيعة فهو في حالة الموت بالذنوب والخطايا ولكنه يرجع إلى الحياة بالخبز والماء، الخبز يشير إلى خبز الحياة الرب يسوع المسيح له المجد، والماء يشير إلى كلمة الله المقترنة بالروح القدس أي بتقديم المسيح له والإيمان به كالفادي والمُخلص. وفي الخبز والماء نجد الإنجيل، وهنا نتذكر للرجل الذي ورد ذكره في لوقا 10 الذي كان بين الحياة والموت، وأسعفه السامري الصالح وأركبه على دابته ووصل به إلى الفندق الذي يشير إلى دائرة النعمة.

وكان لدى الغلام المصري تأكيد أنه يرجع إلى سيده العماليقي مرة أخرى أي لم يرجع إلى العبودية مرة أخرى وهذا ما نراه في كل من يؤمن بالمسيح إذ يتحرر ولا يرجع إلى عبودية الخطية مرة أخرى.

أُنقذ الرجل المصري ونال الحياة ولم تعد تنتظره الدينونة التي كانت تنتظر أسياده العمالقة. كانوا يرقصون فرحاً وفاجأتهم الدينونة بغتة إذ ضربهم داود من العتمة إلى مساء اليوم التالي ولم ينج منهم سوى أربعمائة رجل هربوا على جمالهم، وهؤلاء الذين كانوا يرقصون فرحاً يشبهون أهل العالم الذين يأكلون ويشربون ويفرحون غير عالمين المصير البئس الذي ينتظرهم.

استخلص داود كل ما أخذه عماليق وليس هذا فقط بل رجع بغنائم كثيرة، وعند عودته لم يرد الرجال الذين رافقوا داود أن يكون لزملائهم الذين مكثوا عند الأمتعة أن يأخذوا مثلهم في الغنائم، ولكن داود رفض هذا الأمر، وقال "كنصيب النازل إلى الحرب الذي يقيم عند الأمتعة فإنهم يقتسمون بالسوية" وأصبح هذا الأمر من ذلك اليوم فريضة وحكماً لإسرائيل، وهذا يرينا أن الذين يخدمون بالكلمة ويربحون نفوساً للمسيح سوف تكون أجرتهم مثل أجور الذين يساعدونهم بالصلاة وهم في بيوتهم.

لم يسترد داود ممتلكاته فقط بل أيضاً غنائم كثيرة فوقها، كما استفاد اختباراً جديداً مع الرب. وهو معرفة طريق الله بالنعمة، وأصبح داود بهذا سبباً ليس في إثراء نفسه فقط بل شيوخ يهوذا وإسرائيل أيضاً إذ أرسل من الغنائم إلى أكثر من إحدى عشرة مدينة وكان منها من تُبعد عن صقلغ بنحو 30 كيلو متراً، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال معنا أن يستفيد من اختباراتنا بعد رد نفوسنا إخوتنا أيضاً. ونرى هنا أيضاً صورة جميلة عن المستقبل عندما ينتصر مليكنا الآتي على كل أعدائه فيعطي كل شعبه أن يشاركوه أمجاد انتصاراته.

الدروس المستفادة من حريق صقلغ: هي أن الأزمات الصعبة لا تصنع الرجال بل تكشف معادنهم، قد تكون عاملاً من عوامل البناء الروحي ولكن ليس العامل الأساسي إذ أن العامل الأساسي في البناء الروحي هو التصرفات البسيطة والقرارات الصغيرة التي لا يلتفت إليها الآخرون، أما صبغتنا الحقيقية فتظهر عندما تعترضنا أزمة صعبة، ونستطيع أن نرى هذا فيما ظهر من رجال داود وما ظهر من داود. لقد بكى رجال داود، وبكى داود أيضاً ولكن قال رجال داود برجمه، أما داود فقد تشدد بالرب إلهه، لقد ظهر في هذه الأزمة معدن رجال داود ومعدن داود أيضاً.

ولكن كيف نحصل على التشجيع والتعضيد اللازم لنا ونصل إلى ما فعله داود؟ بلا شك بالتطلع إلى الله وطرح الأزمة أمامهم ونتشدد به إذ ليست أزمة مستعصية عليه، بل أصعب الأزمات حالها جاهز عنده، ينبغي أن نتصرف كما تصرف داود:

أولاً: بالخضوع إلى إرادة الله الأمر الذي برهنه داود بطلب الأفود من أبياثار الكاهن لمعرفة كيفية التصرف في هذه الأزمة.

ثانياً: طلب القوة من الله للتصرف حسب إرادته ومشيئته التي لا يتأخر الله في إعلانها فوراً "تدرك وتنقذ" ولم يتعوق بالتأمل في أخطائه السابقة بل انطبق القول "هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ" (في 2: 13). أعطى الرب داود ورجاله القوة اللازمة لتنفيذ إرادته "وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ" (إش 40: 31). ويكتب بولس قائلاً "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (في 4: 13).

ثالثاً: ينبغي أن يكون هناك الثقة في الله بأنه يكمل ما بدأه، لأن داود لم يكن يعرف مكان وجود أعداءه والرب هو الذي قاده إلى مكانهم عن طريق الرجل المصري، كما أن الرب قد حفظ كل ما سلبه العمالقة، لم يمدوا أيديهم إليه. ونحن نستطيع أن نقول ما اختبره موسى في تثنية 32 "الرب هو الصخر الكامل صنيعه" كما نقول "َهَذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ إِيمَانُنَا" (1 يو 5: 4) إذ أربع مرات نقرأ في الكتاب "البار بالإيمان يحيى" إنه يخلص بالإيمان وهذه هي البداءة، ويعيش بالإيمان، وإذا فاجأتنا الأزمات نستطيع أن نعمل كثيراً من الأعمال بالإيمان. يقول المرنم "سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي" (مز 37: 5) ومثل داود نعمل ما يأمرنا به الرب، وأيضاً مثل داود نثق في الرب من جهة ما لا نستطيع أن نعمله إذ لا بد أن يعمله هو.

 

  • عدد الزيارات: 1969