Skip to main content

الفَصلُ الأوَّل "الإختِيارُ والنِّعمَة" - هَل فَشِلَ اللهُ؟

الصفحة 3 من 4: هَل فَشِلَ اللهُ؟

هَل فَشِلَ اللهُ؟

"ولكن ليسَ هكذا حتَّى إنَّ كَلِمَةَ اللهِ قد سَقَطَت. لأنْ لَيسَ جَميعُ الذين من إسرائيل هُم إسرائيليُّون. ولا لأنَّهُم من نَسلِ إبراهيم هُم جَميعاً أولادٌ. بل بإسحَق يُدعَى لكَ نَسلٌ. أي لَيسَ أولادُ الجَسَد هُمْ أولاد الله بل أولاد المَوعِد يُحسَبُونَ نَسلاً. لأنَّ كَلِمَةَ المَوعِد هي هذه. أنا آتي نحوَ هذا الوقت ويَكُونُ لِسارَة إبنٌ." (رُومية 9: 6- 9).

بِالنِّسبَةِ لبُولُس، كَون الإنسان يَهُودِيَّاً هُوَ أكثَرُ من مُجَرَّدِ وراثَةِ هذه الهويَّة بالولادة. فليسَ جميعُ المَولُودينَ من أبٍ وأُمٍّ يَهُودِيَّين هم إسرائيل الحقيقيّ. فكَونُ الإنسان يَهُودَيَّاً هُوَ أكثَرُ من مُجَرَّدِ إنتِماءٍ قوميّ. فكَونُ الإنسانِ من ذُرِّيَّةِ إبراهيم هُوَ دَعوة. وكما أشَرتُ غالِباً، كَلمَةُ "جَسَد"، كما إستُخدِمَت مِراراً في الكتابِ المُقدَّس، تعني "الطَّبيعة البَشَرِيَّة بِدُونِ مُساعَدَةِ اللهِ." يَقُولُ بُولُس هُنا أنَّ أُولئكَ المَولُودِينَ بِطَريقَةٍ لا تتطلَّبُ عملَ اللهِ الخارِق للطَّبيعة، هُم ليسُوا إسرائيل الحقيقيّ. ولكن جميع الذين تبرَّرُوا بالإيمان وقَبِلُوا هذا البِرّ الذي لا يُكتَسَبُ بالأعمالِ الصَّالِحَة، بَل يُعطَى لأُولئكَ الذين يُؤمِنُونَ بعملِ يسُوع المسيح على الصَّليب، أُولئكَ هُم ذُرِّيَّةُ إبراهيم الحقيقيَّة. كتبَ بُولُس هذه الحقيقَة نفسَها للغَلاطِيِّين (غلاطية 3: 29).

إنَّ قَلبَ هذا الرَّسُول مكسُورٌ لأنَّهُ كُلَّما إزدادَت الإمتِيازاتُ الرُّوحيَّة، كُلَّما عَظُمَت المَسؤوليَّة الرُوحيَّة. فعلى الرُّغمِ من كُلِّ إمتيازاتِهِ الرُّوحيَّة، إختارَ شَعبُ إسرائيل أن لا يَكُونُوا مُختارِينَ منَ الله، فرَفَضُوا المسيَّا والمُخَلِّص يسُوع. وإذ يبدَأُ بُولُس هذه الإصحاحاتِ المُمَيَّزة الثَّلاثَة، والتي يُعَلِّمُ فيها عنِ الإختِيار - أو عن كونِ اللهِ قدِ إختارَ اليَهُود – يُعَلِّمُ بِوُضُوحٍ أنَّ كَونَهُم مُختارِينَ منَ الله لم يُبطِل ولم يُزِلْ قدُرَتَهُم ومسؤوليَّتَهُم على إختيارِ اللهِ وإختيار تدبيرِهِ لخلاصِهِم.

في هذه الإصحاحاتِ العميقة الثَّلاثَة (9- 11)، يستخدمُِ بُولُس إسرائيل كأوضَحِ مَثَلٍ في الكتابِ المُقدَّس عن كونِ اللهِ يختارُ أُولئكَ الذين سبقَ فعيَّنَهُم ودعاهُم وبَرَّرَهُم ومجَّدَهُم من خلالِ الخلاص. في إحدَى أعظَم مُتناقِضاتِهِ في كلمةِ الله، سوفَ يستَخدِمُ أيضاً إسرائيل كأعظَمِ مثَلٍ في الكتابِ المُقدَّس عمَّا نُشيرُ إليهِ بإرادَةِ الإنسان الحُرَّة،" أو الحقيقَة التي لا تُنكَرُ أنَّنا مخلُوقات ذاتَ خَيارٍ حُرّ.

التَّناقَضُ هُوَ حقيقتانِ تبدُوانِ مُتناقِضَتَين، ولكنَّهُما لن تَكُونا كذلكَ عندما تنسَجِمُ أفكارُنا وطُرُقُنا معَ أفكارِ وطُرُقِ الله. كَونُ شعب إسرائيل هُوَ المثالُ الكتابِيُّ عن كُلٍّ منَ الإرادَةِ الحُرَّةِ والإختِيار، هُوَ أعظَمُ تناقُضٍ في الكتابِ المُقدَّس. هذا التَّناقُضُ نفسُهُ مَوجُودٌ في الأناجيل، حَيثُ نقرأُ أنَّ الرُّسُلَ يتَّخِذُونَ خَياراتٍ واضِحَة بالإيمانِ بيسُوع وبإتِّباعِهِ. ولكن، بعدَ ثلاثِ سنواتٍ من إتِّباعِهِ، وفي خُلوَتِهِ الأخيرة معَهُم في العُلِّيَّة، أعلنَ لهُم قائِلاً: "ليسَ أنتُم إختَرتُمُونِي، بل أنا إختَرتُكُم..." (يُوحَنَّا 15: 16)

عندما نُدرِكُ أنَّهُ بحَسَبِ الكتابِ المُقدَّس، يختارُنا اللهُ للخَلاص، ورُغمَ ذلكَ نختارُ نحنُ بأنفُسِنا أن نخلُصَ، معَ مَنطِقِنا المُتصَدِّع وعقلِنا المَحدُود، ظانِّينَ أنَّهُ ينبَغي أن يَكُونَ الخَيارُ إمَّا لنا أو لله. أي إمَّا أنَّنا نحنُ نختارُ اللهَ والخلاص، أو أنَّ اللهَ هُوَ الذي يختارُنا. يُعَلِّمُ الكتابُ المُقدَّس أنَّ القَضِيَّة هي الإثنان معاً. رُغمَ أنَّهُ ليسَ بإمكانِنا أن نفهَمَ هذا الأمر، ولكنَّ اللهَ يختارُنا، ورُغمَ ذلكَ فنحنُ نُمارِسُ حُرِّيَّةَ الإختِيار ونختارُ اللهَ والخلاص. علينا أن نقبَلَ الحقيقَةَ التي لا تُدحَضُ بأنَّ هاتين الفَرَضِيَّتَين، اللتينِ تبدُوانِ مُتناقِضَتين، هُما حقيقَيَّتانِ لأنَّ الكتابَ المُقدَّس يُعَلِّمُ بأنَّ كِلاهُما حقيقَة.

معَ هذه الخَلفيَّة، أصبَحنا مُستَعِدِّينَ الآن لنتأمَّلَ بهذا المقطع البالِغ الصُّعُوبَة من كلمةِ الله: "وليسَ ذلكَ فقط بل رِفقَة أيضاً وهِيَ حُبلَى من واحِدٍ وهُوَ إسحَقُ أبُونا. لأنَّهُما وهُما لم يُولَدا بعدُ ولا فعلا خَيراً أو شَرَّاً، لِكَي يثبُتَ قصدُ اللهِ حسبَ الإختِيار، ليسَ منَ الأعمال بل منَ الذي يَدعُو. قِيلَ لها إنَّ الكَبيرَ يُستَعبَدُ لِلصَّغير. كما هُوَ مكتوبٌ أحبَبتُ يعقُوب وأَبغَضتُ عِيسُو." (رُومية 9: 10- 13)

بناءً على ما كتبَهُ بُولُس في هذا الإصحاح، اللهُ لا يتصرَّفُ كما نظُنُّ أنَّهُ ينبَغي أن يتصرَّف. بل يُخرِجُنا من صنادِيقِنا، أو من طُرُقِنا المُعتادَة على فهمِنا لهُ. فنحنُ نُحِبُّ أن نُفَكِّرَ باللهِ وكأنَّهُ إنسانٌ، وأنَّهُ سيتصرَّفُ كما كُنَّا نحنُ سنتَصَرَّفُ لَو كُنَّا مكانَهُ. ولكن من خلالِ النَّبِيِّ إشعياء، حَذَّرَنا إشعياءُ أنَّ الفَرقَ بينَ الطريقة التي يُفَكِّرُ ويعمَلُ ويكُونُ بها اللهُ، وبينَ الطريقة التي نُفَكِّرُ بها نحنُ ونعمَلُ ونَكُونُ إذ نحيا حياتَنا، هُوَ مثلُ إرتِفاعِ السَّماواتِ عنِ الأرض (إشعياء 55: 8).

مَرَّ وقتٌ إتَّفَقَ فيهِ الجميعُ على أنَّ الأرضَ مُسَطَّحَة. ولكنَّ المُؤمنينَ إكتَشَفُوا نُصُوصاً كِتابِيَّةً تُؤَكِّدُ ما نَظُنُّهُ اليومَ صحيحاً. ثُمَّ بدأَ أُولئكَ الذين يدرُسُونَ هذه الأُمُور بمُشارَكَةِ الإقتِناعِ بأنَّ الأرضَ مُستَديرَة، وبأنَّها تَدُورُ حولَ مِحوَرِها، وهكذا تسبَحُ في الفَضاءِ الشَّاسِع كجُزءٍ منَ المجمُوعَةِ الشَّمسِيَّة، التي هي بِدَورِها جزءٌ من كَونٍ لا حُدُودَ لهُ، يحتوي على مجمُوعاتٍ شمسيَّة لا تُعَدُّ ولا تُحصَى. هذا جعلَ بعضَ المُؤمنينَ يشعُرُونَ بعدَمِ الإرتِياحِ في تلكَ الأيَّام، لأنَّهُم كانُوا مُقتَنِعِينَ أنَّ كَلِمَةَ اللهِ تُعَلِّمُ عكسَ ذلكَ.

فنحنُ نُحِبُّ أن تَكُونَ لنا نظرَتُنا الخاصَّة إلى هذا العالَم الذي فيهِ نعيش، وفلسَفَتُنا الخاصَّة بالحياة ومفهُومُنا الخاصّ عنِ اللهِ، ونُريدُ أن تتواجَدَ هذه الأُمُور في عُقُولِنا إلى جانِبِ بعضِها البَعض، كُلٌّ في منطَقَتِهِ الخاصَّة في صنادِيقَ خياليَّة مُخَصَّصَة له. ولكنَّ اللهَ الذي نلتَقيهِ في الكتابِ المقدَّس، والكلمةُ الحَيَّة الذي دَوَّنَ الكتابَ المُقدَّس، لا يَكُونُ دائماً على قَدرِ حجمِ صنادِيقِنا وعُلَبنا الصَّغيرة التي نُريدُ وَضعَهُ فيها. ويبدُو أنَّهُ يُسَرُّ بتكسيرِ جوانِبِ هذه الصَّناديق، لأنَّهُ إلهٌ أكبَر بِكَثير من أن يُوضَعَ في عُلبَة.

بينما نُفَكِّرُ باللهِ ونتعرَّفُ عليهِ، يُرغِمُنا اللهُ على الخُرُوجِ من تفكيرِنا المحدُود، بكَونِهِ يتصرَّفُ بطريقَةٍ غيرِ مُتوقَّعَة بتاتاً، وبطريقَةٍ يجعَلُنا فيها مُتَحَيِّرينَ ومُرتَبِكين. ولكن كما حَذَّرَنا إشعياء، اللهُ ليسَ إنساناً (إشعياء 55: 8). فهُوَ لا يُفَكِّرُ ولا يعمَلُ مثلنا نحنُ. قبلَ أن ندخُلَ في هذا الإصحاح، علينا أن نتذكَّرَ بِبَساطَةٍ وُجهَةَ النَّظَرِ هذه التي نحصَلُ عليها من إشعياء، وأن لا نتوقَّعَ أن نفهَمَ الله، ولماذا يفعَلُ ما يفعَلُهُ، أو الطَّريقَة التي يعمَلُ بها ما قرَّرَ فعلَهُ.

نحتاجُ أن نتذَكَّرَ وُجهَةَ النَّظَرِ هذهِ التي أخبَرنا بها اللهُ عن نفسِهِ من خلالِ إشعياء، خلالَ قِراءَتِنا ودراسَتنا للإصحاحِ التَّاسِع، العاشِر والحادِي عَشَر من هذه التُّحفَة اللاهُوتِيَّة لبُولُس الرَّسُول. في هذه الإصحاحاتِ الثلاثَة، سوفَ يربِطُ بُولُس التَّبريرَ بالإيمان بِشَعبِ إسرائيل. وسوفَ يستَخدِمُ بُولُس إسرائيل كإيضاحٍ عن إختِيارِ اللهِ للإنسان، وعن حُرِّيَّةِ إرادَةِ الإنسان في إختِيارِ الله.

ثلاثَة مبادِئ في الإختِيارِ والنِّعمة
الصفحة
  • عدد الزيارات: 8548