الفَصلُ الثَّانِي "ماذا ينبَغي عَلَيَّ أن أَفعَلَ لِكَي أخلُص؟"
(رُومية 10: 1- 13)
العُنوانُ الذي وضَعتُهُ لهذا الفَصل هُوَ سُؤالٌ طرَحَهُ سَجَّانٌ على الرَّسُولِ بُولُس في سِجنٍ في مَدينَةِ فيلبِّي. وكانَ جوابُ بُولُس لهُ، "آمِنْ بالرَّبِّ يسُوع المسيح، فتَخلُصْ أنتَ وأهلُ بَيتِكَ." (أعمال 16: 30، 31). وها نحنُ الآنَ نقتَرِبُ من الإصحاحِ العاشِر من رِسالَةِ بُولُس الرَّسُول إلى أهلِ رُومية، والتي سنَجِدُ فيها أوضَحَ جوابٍ في العهدِ الجديد على السُّؤالِ الذي طرَحَهُ سَجَّانُ فيلبِّي على بُولُس الرَّسُول.
عندما تُستَخدَمُ كَلِمَة "تَخلُصُ" من قِبَلِ أتباعٍ حقيقيِّينَ للمسيح، تَكُونُ أحياناً مُربِكَةً لا بل هُجُومِيَّةً بالنِّسبَةِ لِغيرِ المُؤمنين الذين يلتَقيهِم المُؤمِنُونَ في حياتِهِم اليَوميَّة. نحنُ نستَخدِمُ الكلمة بكَثرَةٍ معَ المُؤمنين، لدَرَجَةِ أنَّنا لا نُدرِكُ دائماً أنَّ غيرَ المُؤمنين ليسَ لدَيهمِ فكرَةٌ عمَّا نعنيهِ عندما نستَخدِمُ هذه الكلمة. إنَّ كَلِمَة "تخلُص،" تعني حرفيَّاً "تُنقَذ." ولكي نَقدُرَ قيمَةَ هذه الكلمة، علينا أن نطرَحَ السُّؤال، "نُنقَذُ من ماذا؟" قد يسألُنا غيرُ المُؤمنين هذا السُّؤال، إذا طرحنا عليهم السُّؤالُ ما إذا كانُوا مُخَلَّصِين أو مُنقَذِين. فسيَكُونُ سُؤالُهُم، "مُخَلَّصِينَ أو مُنقَذِينَ من ماذا؟"
حوالي 40 بالمئة منَ المرَّاتِ التي إستَخدَمَ فيها يسُوعُ هذه الكلمة، يتكلَّمُ عن كَونِ الإنسانِ مُخَلَّصاً من عقابِ الخطيَّةِ المُستَقبَلِيّ. في العهدِ الجديد، يُعَلِّمُ يسُوعُ بإستِمرارٍ وبإسهابٍ أنَّهُ بعدَ المَوت، سيكُونُ هُناكَ إحتِمالانِ لا ثالِثَ لهُما: السَّماء أو جهنَّم. ولكن 60 بالمائة من إستخدامِ يسُوع لهذه الكلمة، نَجِدُهُ يتكلَّمُ عن كَونِ الإنسان يُنقَذُ من عقابِ الخطيَّةِ الحاضِر. فالنَّاسُ يخلُصُونَ من القُيُود، مثل المرأة التي كانت مُنحَنِيَةَ الظَّهرِ بما نُسمِّيهِ اليَوم بمرَضِ التَّكَلُّس لمُدَّةِ ثمانِيَةِ عشَر عاماً. لقد وصَفها يسُوعُ بأنَّهَا كانت مُقَيَّدَةً للشَّيطان طِوالَ تلكَ السِّنين (لُوقا 13: 11- 16).
صَلَّى بُطرُس إحدَى أقصَر الصَّلواتِ وأفصَحَها في الكتابِ المُقدَّس. فعندَما مَشَى على بَحرِ الجليل في وسطِ ليلَةٍ عاصِفَة، حوَّلَ عينيهِ عن الرَّب، ونقرأُ أنَّهُ، "عندَما إبتدأَ يغرَق، صرخَ قائِلاً: يا رَبّ نَجِّني!" (متَّى 14: 30) وفي الحال، أنقَذَهُ يسُوعُ منَ الغَرَق. في رحلاتِ إيمانِنا، غالِباً ما تُواجِهُنا تلكَ الأزمات التي تُنَمِّي وتُطَوِّرُ إيمانَنا، عندما يتحتَّمُ علينا أن نُصَلِّي تلكَ الصَّلاة البَليغَة، الهامَّة، والمَصِيريَّة.
في هذا الإصحاح، عندما يُخبِرُنا بُولُس كيفَ نخلُصُ، يتكلَّمُ بالإجمالِ عن تلكَ النَّاحِيَة المُستَقبَلِيَّة والأبَدِيَّة من خلاصِنا. سواءٌ أكانَ هذا المَوقِفُ هُجُومِيَّاً أم لا، فإنَّ تلاميذَ يسُوع الذي يأخُذُونَ تطبيقَ مأمُوريَّة المسيح العُظمَى على مَحمَلِ الجَدّ، عليهِم أن يُطَبِّقُوا هذه الكلمة "مُخَلَّص" لأنَّ الحقيقَةَ الأساسيَّة عن الحياةِ الأبديَّة والمَوتِ الأبديّ، هي أنَّ النَّاسَ هم هالِكُونَ وضالُّونَ بدُونِ الله. فليسَ علينا أن ننتَظِرَ إلى أن نَمُوتَ أو نهلِك. فنحنُ أصلاً هالِكُونَ وضالُّون. لهذا علينا أنا وأنتَ أن نخلُص! ولهذا تُوصَفُ رسالَة ُيسُوعُ بأنَّها الإنجيل، أو الأخبار السَّارَّة.
عندَما يعرِفُ النَّاسُ أنَّهُم هالِكُون، يأتي التَّصريحُ الكِتابِيُّ التَّالِي خبراً مُفرِحاً جدَّاً: "لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ، حتَّى بَذَلَ إبنَهُ الوحيد، لكَي لا يهلِكَ كُلُّ من يُؤمِنُ بهِ، بل تَكُونُ لهُ الحياةُ الأبديَّة. (يُوحَنَّا 3: 16).
يبدَأُ بُولُس هذا الإصحاح بالتَّعبيرِ مُجَدَّداً عن إهتِمامِهِ وتثَقُّلِهِ الحقيقيّ بخلاصِ اليَهُود: "أيُّها الإخوة إنَّ مَسَرَّةَ قَلبِي وطِلبَتِي إلى اللهِ لأجلِ إسرائيل هي لِلخَلاص. لأنِّي أشهَدُ لهُم أنَّ لهُم غَيرَةً للهِ ولكن ليسَ حسبَ المَعرِفَة. لأنَّهُم إذ كانُوا يجهَلُونَ بِرَّ اللهِ ويطلُبُونَ أن يُبِتُوا بِرَّ أنفُسِهِم، لم يُخضَعُوا لِبِرِّ الله. لأنَّ غايَةَ النَّامُوس هي المسيحُ لِلبِرِّ لِكُلِّ من يُؤمِنُ." (رُومية 10: 1- 4)
وإذ يتكلَّمُ بُولُس من قَلبٍ مُفعَمٍ بالمَحَبَّةِ والعَطفِ على اليَهُود، يمدَحُهُم على غَيرَتِهِم في مُحاوَلَتِهِم لإثباتِ بِرِّ أنفُسِهم. وهُوَ يرى نفسَهُ في مُحاوَلَتِهِم لإثباتِ بِرِّهم الذَّاتِي، لأنَّ هذه كانت الدَّافِع الأساسيّ في حياتِهِ قبلَ أن يلتَقِيَ بالمسيحِ المُقامَ. ولقد ختمَ هذا المقطَع بِالقَولِ أنَّ المَسيحَ هُوَ غايَةُ النَّامُوس لِكُلِّ من يُؤمِن. ويعني بُولُس بهذا أنَّ غايَةَ نامُوسِ اللهِ كانت أن يَكُونَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنا لِيَصِلَ بنا إلى المسيح (غلاطية 3: 24). وهُوَ يقصِدُ أيضاً أنَّ المسيحَ كانَ ولا يزالُ مُتَمِّمَ النَّامُوس (رُومية 10: 4؛ متَّى 5: 17).
إنَّهُ مُثقَلٌ بشِدَّة لأجلِ هؤلاء اليَهُود، لأنَّهُ يعرِفُ خيبات الأمل واليأس والفَشل الذي أصابَهُ في سَعيهِ الغَيُور لتحصيلِ الخلاص بالبِرِّ الذَّاتِي. ولِعِدَّةِ سنواتٍ، إختَبَرَ اليأسَ من مُحاوَلَةِ إكتِسابِ البِرّ، الذي أراهُ إيَّاهُ المسيحُ بأنَّهُ عَطيَّةٌ منَ اللهِ تُقبَلُ بالإيمانِ، بواسِطَةِ ما فعَلَهُ مُخَلِّصُنا من أجلِنا.
وواضِحٌ أنَّ هذا وصفٌ يُظهِرُ لليَهُودِ، الذين كانَ يكتُبُ لَهُم، ولي ولكَ، الفَرقَ بينَ مُحاوَلَةِ إكتسابِ بِرِّنا، وبينَ قُبُولِهِ منَ اللهِ كعَطِيَّةِ البِرِّ المجَّانِيَّة، بالإيمانِ بما فعلَهُ يسُوعُ من أجلِنا على الصَّليب.
في الإصحاحِ التَّاسِع من هذه الرِّسالَة، يستَخدِمُ بُولُس إسرائِيلَ ليُوضِحَ نقيضَ ما علَّمَ بهِ في الإصحاحِ الثَّامِن.
في الإصحاحِ الثَّامِن، وفي الجزءِ الأوَّلِ منَ الإصحاحِ التَّاسِع، عَلَّمَ بُولُس مُعجِزَةَ الإختيار الإلهيّ المَبنِيِّ على سِيادَةِ الله. أكَّدَ بُولُس الإنتِصار الرُّوحِيّ لأُولئِكَ الذين سبقَ اللهُ فعَرَفَهُم وعَيَّنَهُم ودَعاهُم وبَرَّرَهُم ومَجَّدَهُم. في الإصحاحِ التَّاسِع، وبعدَ التَّعليم بأنَّ اللهَ إختارَ يعقُوبَ ورفضَ عيسُو قبلَ أن يُولَدا، أبرزَ بُولُس الحقيقَةَ الرَّهيبَة أنَّ شَعبَ إسرائيل إستَخدمُوا حُرِّيَّتَهُم ككائِناتٍ ذاتِ خيارٍ حُرّ، وإختارُوا أن لا يكُونُوا مُختارِينَ منَ الله.
وهُنا، في الإصحاحِ العاشِر، يتكلَّمُ بُولُس عنِ الخلاصِ لليَهُود، للأُمَم، ولكُلِّ من يدعُو بإسمِ الرَّبّ، وكأنَّ مُعجِزَةَ إختِبارِ الخلاص هي بِبَساطَةٍ قَضِيَّةَ كُلِّ من يختارُ أن يدعُوَ بإسمِ الرَّبّ. وكما أشَرتُ سابِقاً، يُعتَبَرُ هذا واحِداً من أعظَمِ المُتناقِضاتِ في الكتابِ المُقدَّس. الطريقَةُ الوحيدَةُ لإيجادِ حَلٍّ لهذا التَّناقُض، هُوَ بِقُبُولِ الحقيقَةِ الصَّعبَة بأنَّ القَضِيَّةَ هي ليسَت واحِداً منَ الإثنين، بل الإثنَينِ معاً. فاللهُ يختارُنا، ولكنَّنا نحنُ بِدَورِنا نتَّخِذُ الخيارَ والُخطوات المَصيريَّة التي تُقَرِّرُ مصيرَنا الأبديّ.
رُغمَ أنَّ بُولُس يُؤمِنُ بالإختيارِ الإلهيِّ المَبنِي على سِيادَةِ الله، ولكنَّهُ يُصَلِّي بحرارةٍ ولجاجَة لأجلِ خلاصِ إخوتِهِ وأخواتِهِ اليَهود، والذين لم يختَبِرُوا ذلكَ التَّغيير الجَذرِيّ في شَغَفِهِم بالبِرِّ الذَّاتِي، ذلكَ التَّغيير الذي إختَبَرَهُ هُوَ عندَما إلتَقى بالمسيح.
علينا أن لا نَترُكَ مجالاً لِفِكرَةِ أنَّهُ بِسَببِ سيادَةِ اللهِ، ليسَ بإمكانِنا أن نُغَيِّرَ أيَّ شَيءٍ من خلالِ صلواتِنا. يَقُولُ بُولُس في رسائِلِهِ الرَّاعَويَّة أنَّ "اللهَ يُريدُ أنَّ جميعَ النَّاسِ يخلُصُون وإلى مَعرِفَةِ الحَقِّ يُقبِلُون." بعدَ قيامِهِ بهذا التَّصريح، ينصَحُ بُولُس بأن تُقامَ صلواتٌ بِحرارَةٍ لأجلِ جميعِ النَّاس. عندما تتأمَّلُ كنائِسُنا بالمشارِيع والأهداف الإرسالِيَّة اليَوم، وعندما يَتِمُّ وَضْعُ الأولويَّات، علينا أن نُدرِكَ أنَّ هذه الصَّلواتِ لأجلِ خلاصِ الجميع، ينبَغي أن تُقَدَّمَ "أوَّلَ كُلِّ شَيء!" (1تيمُوثاوُس 2: 1- 4).
يُشِيرُ بُولُس بإسهابٍ إلى هؤُلاء اليَهُود الذين كانُوا يُحاوِلُونَ تحقيقَ الخلاصِ ببِرِّهِم الذَّاتِي، لأنَّهُ لا يُوجَدُ يَهُودِيُّ حاوَلَ أكثَرَ من شاوُل الطَّرسُوسِي نفسه بأن يُحَقِّقَ هذا النَّوع منَ البِرّ. ولقد أخبَرنا بُولُس بصراعِهِ العديمِ الجَدوى لتحقيقِ هذا النَّوع منَ البِرّ في الإصحاحِ السَّابِع من هذه الرِّسالَة، وفي الإصحاحِ الثَّالِث من رسالَتِهِ إلى كنيستِهِ المُفَضَّلَة في فيلبِّي. وبعطفٍ كبير، كتبَ لهؤُلاء اليَهُودِ وعنهُم قائِلاً: "لأنَّ مُوسَى يكتُبُ في البِرِّ الذي بالنَّامُوسِ إنَّ الإنسانَ الذي يَفعَلُها سَيَحيا بها. وأمَّا البِرُّ الذي بالإيمانِ فيَقُولُ هكذا لا تَقُلْ في قَلبِكَ من يَصعَدُ إلى السَّماءِ أي ليُحدِرَ المسيح. أو من يهبِطُ إلى الهاوِيَةِ أي ليُصعِدَ المسيحَ منَ الأموات؟ لكن ماذا يَقُولُ؟" (رُومية 10: 5- 6) نُلاحِظُ الجُملَةَ الإعتِراضِيَّةَ التي أدخَلَها بُولُس في وسطِ النَّصِّ هُنا.
يقتَبِسُ بُولُس مقطَعاً مُحَيِّراً كتبَهُ مُوسى في سفرِ التَّثنِيَة (30: 12- 14). يُرينا هذا المقطَع أنَّ مُعطي النَّامُوس العَظيم أدركَ دائماً مقاصِدَ وحُدُودَ نامُوسِ الله، الذي أُعطِيَ لِشعبِ اللهِ من خلالِه على جَبَلِ سيناء. لقد عرفَ مُوسى أنَّ القَصدَ منَ النَّامُوس كانَ أن يُظهِرَ لنا أنَّنا نحتاجُ إلى الفَادِي، المسيح، الذي نزَلَ منَ السَّماء، ليَكُونَ حمَلَ الذَّبيحَةِ الكامِل، وليَمُوتَ ويَقُومَ منَ المَوتِ، لكي ننالَ البِرَّ الذي يُنالُ بالإيمانِ وبالنِّعمَة.
لقد رأى مُوسَى حقيقَةَ الإنجيل هذهِ نبَوِيَّاً. عندما أعلَنَت الملائِكَةُ الأخبارَ السَّارَّة أنَّ المسيحَ كانَ ينبَغي أن يُولَدَ، وأنَّ هذا كانَ سيمنَحُ فرحاً عظيماً لجَميعِ الشَّعب، كانَ هذا بِبَساطَةٍ قِمَّةَ ما بدأَهُ اللهُ من خلالِ إبراهيم وتابَعَهُ من خلالِ مُوسى بإعطاءِ النَّامُوس (لُوقا 2: 10، 11). لقد رأى مُوسى أنَّهُ رُغمَ أنَّ حقَّ اللهِ جاءَ لِشَعبِ اللهِ من خلالِهِ، إلا أنَّ النِّعمَةَ والحَقَّ صارَا لِشعبِ اللهِ من خلالِ المسيح المَصلُوب والمُقام.
ولقد رأى أيضاً الإنتصارَ الرُّوحيّ الذي وصفَهُ بُولُس في الإصحاحِ الثَّامِن من هذه الرِّسالَة. وأدركَ أنَّ البِرّ، الذي سيُتَمِّمُ نامُوسَ الله، لن يرتَبِطَ بِبساطَةٍ بحفظِ النَّامُوس، بل بإلهٍ ديناميكيٍّ خارِقٍ للطَّبيعة، الذي سيَضَعُ هذا البِرّ في قُلُوبِ شَعبِهِ.
كتبَ بُولُس يَقُولُ أنَّ البِرَّ الذي منَ الإيمان، لديه أمرٌ هامٌّ يَقُولُهُ لنا. وهُوَ يُثيرُ إهتِمامَنا في ما يَقُولُهُ، بختمِ المقطَعِ أعلاهُ بسُؤال، "ماذا يَقُول؟" وها هُوَ الآن يُخبِرُ جميعَ النَّاسِ الهالِكين في كُلِّ مكانٍ وكُلِّ زَمانٍ كيفَ يُمكِنُهُم أن يخلُصُوا، عندما يُجيبُ على هذا السُّؤال. هذا ما هُوَ البِرّ الذي منَ الإيمان، الذي يَقُولُ لنا: "الكلمَةُ قَريبَةٌ منكَ في فَمِكَ وفي قَلبِكَ أي كَلِمَةُ الإيمانِ التي نَكرِزُ بها." (رُومية 10: 8)
البِرُّ الذي منَ الإيمان وبالإيمانِ يَقُولُ لنا أنَّ كلِمَةَ اللهِ هي في قَلبِنا وفي فَمِنا. الفَمُ يُشيرُ إلى الإنسانِ الخارِجيّ، والقَلبُ يُشيرُ إلى الإنسانِ الدَّاخِليّ. ولقد علَّمَنا يسُوعُ أنَّهُ، "من فَضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ اللِّسان." لُوقا 6: 45). بِكَلِماتٍ أُخرى، بإمكانِكَ أن تعرِفَ ماذا يجري في القَلب، من خلالِ ما يُعَبَّرُ عنهُ بالفَم. يُذكَرُ القَلبُ أكثَرَ من ألفِ مرَّةٍ في الكتابِ المُقدَّس. وعندما تَتِمُّ الإشارَةُ إلى القَلبِ في كلمَةِ الله، يَتِمُّ تَوجِيهُنا إلى جوهَرِ كيانِنا، حَيثُ نُحبُّ اللهَ، ونتَّخِذُ قراراتٍ، ونُشَكِّلُ دوافِعَنا ونَضَعُ قِيمَ أولَوِيَّاتِ حَياتِنا.
لِهذا أعطانا بُولُس نصيحَةً واضِحَةً عن كيفَ يُمكِنُنا أن نخلُصَ، عندما كتبَ قائِلاً: "لأنَّكَ إن إعتَرَفتَ بِفمِكَ بالرَّبِّ يسُوع، وآمنتَ بِقَلبِكَ أنَّ اللهَ أقامَهُ منَ المَوتِ خَلُصت. لأنَّ القَلبَ يُؤمَنُ بهِ لِلبِرِّ والفَمَ يُعتَرَفُ بهِ للخَلاص. لأنَّ الكتابَ يَقُولُ كُلُّ من لا يُؤمِنُ بهِ لا يُخزَى. لأنَّهُ لا فَرق بينَ اليَهُودِيِّ واليُونانِيّ لأنَّ رَبَّاً واحِداً لِلجَميعِ غَنِيَّاً لِجَميعِ الذين يدعُونَ بهِ. لأنَّ كُلَّ من يدعُو بإسمِ الرَّبِّ يخلُص." (رُومية 10: 8- 13).
يعتَبَرُ هذا الجواب أكثَرَ كَمَالاً على السُّؤال الذي طَرَحَهُ سَجَّانُ فيلبِّي على بُولُس. نجدُ هُنا أوضَحَ وأبسَطَ توضِيحٍ في الكتابِ المُقدَّس عن كيفَ يُمكِنُ الإنسان أن يخلُص. يُعلِّمُنا الكتابُ هنا أن نُؤمِنَ بقُلُوبِنا وأن نعتَرِفَ بأفواهِنا ثُمَّ يَعِدُنا الكتابُ بأنَنا سنخلُص. فهل نحنُ نُؤمِنُ بِقُلُوبنا بالفعل؟ وهل نعتَرِفُ بحياتِنا بما نَقُولُ أنَّنا نُؤمِنُ بهِ بِقُلُوبِنا؟
إذا دَرَسنا الأماكن التي تُشيرُ إلى القَلب في الكتابِ المُقدَّس، والتي يزيدُ عدَدُها عنِ الألف، سوفَ نَجِدُ أنَّ ما يُسَمِّيهِ الكتابُ المُقدَّسُ أحياناً بالقَلب، يُشيرُ إلى الرُّوح، الإرادَة، العَقل، العاطِفَة، الشُّعُور، ونواحٍ أُخرى كثيرَة من تلكَ التي تجعَلُ منَّا كائناتٍ مَخلُوقَةً على صُورَةِ اللهِ ومِثالِهِ. يُوجَدُ تعبيرٌ في العهدِ الجديد، الذي يشمَلُ كُلَّ هذه النَّواحي منَ الحياةِ البَشَريَّة. كتبَ بُولُس يَقُولُ، "لذلكَ لا نَفشَل، بل وإن كانَ إنسانُنا الخارِجُ يفنَى فالدَّاخِلُ يتجدَّدُ يَوماً فيَوماً." (2كُورنثُوس 4: 16) كُلُّ هذه النَّواحي يُشيرُ إليها الكتابُ المُقدَّس عندما يتكلَّمُ عن قُلُوبِنا التي يُمكِنُ أن تُسَمَّى "بالإنسانِ الدَّاخِليّ."
مُنذُ عِدَّةِ سنواتٍ، كانَ يُوجَدُ رَجُلُ يُدعَى John Quincy Adams ، وكانَ يجتازُ الشَّارِع. وكانَ مُعتَلًَّ الصِّحَّةِ لدَرَجَةٍ تطلَّبَهُ إجتيازُ الشَّارِعِ حوالي خمسة دقائِق، ريثَما إستطاعَ خلالَها الإقتِراب منَ الجهَةِ الأُخرى منَ الطَّريق. فسأَلَهُ أحدُ الأصدِقاء الذي كانَ يجتازُ الشَّارِع، "كيفَ حالُكَ هذا الصَّباح؟" فأجابَ، أنا على ما يُرام. ولكنَّ المنزِلَ [أي الجَسَد] الذي أعيشُ فيهِ هُوَ في حالَةِ ميؤُوس منها. بالحقيقَة، إنَّهُ خَرِبٌ لدَرَجَةِ أنَّهُ سيتوجَّبُ عليَّ أن أنتَقِلَ منهُ عمَّا قَريب. أمَّا أنا فإنَِّي على ما يُرام شَخصيَّاً."
لقد كانَ لهذا الرَّجُل لاهُوتاً صحيحاً. فأن نُمَيِّزَ بينَ الإنسانِ الدَّاخِليّ (أي إنسانُنا الرُّوحي الأبديّ)، وبينَ الإنسانِ الخارِجيّ (أي جسدنا المُؤقَّت)، فإنَّ هذا التَّمييز يعطينا بَصيرَةً ثاقِبَة إلى ما يقصُدُهُ بُولُس عندَما يَنصَحُنا بأن نُؤمِنَ بِقُلُوبِنا إذا أرَدنا أن نَخلُص.
أحدُ هذه الشَّواهِد الكِتابِيَّة عنِ القَلب، يَحُثُّنا على أن "نحفَظَ قَلبَنا بِكُلِّ تحفُّظٍ، لأنَّ مِنهُ مخارِجُ الحياة." (أمثال 4: 23) إحدَى هذه القَضايا هي قضيَّةُ الإيمان – أي القرار الواعِي بالإعتِراف بفَمنا أنَّ يسُوعَ هُوَ رَبٌّ، لأنَّنا نُؤمِنُ بِقُلُوبِنا أنَّهُ ماتَ ليَدفَعَ ثمنَ خلاصِنا، وقامَ منَ المَوت ليَكُونَ رَبَّنا الحَيَّ المُقام.
بَعدَ إعطاءِ الإنطِباع في الجزء الأخير منَ الإصحاحِ الثَّامِن وعبرَ كامل الإصحاح التَّاسِع، بأنَّ الخلاصَ يَعتَمِدُ كُلِّيَّاً على إختيار الله على أساس سِيادَتِهِ، يُرَكِّزُ بُولُس هُنا على المَسؤُوليَّة التي لَدَينا تجاهَ خلاصِنا. فعَلَينا أن نُؤمِنَ في قُلُوبِنا ونعتَرِفَ بأفواهِنا. بدُونِ هاتَينِ الحقيقَتين الدَّاخِليَّة والخارِجيَّة، يُعطي الآن إنطِباعاً بأنَّهُ لن يَكُونَ هُناكَ أيُّ خلاص. ثُمَّ يختُمُ هذه الأعداد بالإقتِباس من النَّبِيّ إشعياء والنَّبِيّ يُوئيل، اللذَينِ كَرَزا أنَّ اللهَ يُخَلِّصُ كُلَّ من يدعُوهُ لِلخَلاص.
علينا أن نتأكَّدَ من المُلاحَظَةِ أنَّهُ علينا أن نعتَرِفَ بأنَّ يسُوعَ هُوَ رَبّ. فالحضارَةُ التي شَكَّلَت التُّربَة التي فيها نمت كنيسَةُ العهدِ الجديد، كانت تحتَ سُلطَةِ الأمبراطُويَّةِ الرُّومانِيَّةِ السَّاحِقَة. والمُواطِنُونَ الرُّومانِيُّونَ أمثال بُولُس، الذين أرادُوا أن يَكُونُوا على صَوابٍ أو على الأقل على إنسجامٍ معَ هذه الأَمبراطُوريَّة العالَميَّة، كانَ يُتَوقَّعُ مِنهُم أن يُمارِسُو طقساً مُعَيَّناً مرَّةً في السَّنَة. كانَ عليهم أن يُلقُوا حفنَةً منَ البَخُّور على مذَبَحِ النَّار، وأن يُصَرِّحُوا علانِيَةً بالقَول، "قَيصَر رَبّ!." لقد إستُشهِدَ الآلافُ منَ تلاميذ يسُوع الأتقِياء، لأنَّهُم لم يَقبَلُوا بِمُمارَسَةِ هذا الطَّقس. وهكذا أصبَحَت صَرخَةُ المعرَكَة للكنيسةِ الأُولى هاتانِ الكَلِمتان، "يسُوع رَبّ!" (1كُورنثُوس 12: 3).
بينما تقرأُونَ في العهدِ الجديد، لاحِظُوا أيضاً التَّالِي، أنَّنا غيرُ مَدعُوِّينَ للإعتِرافِ بيسُوع كَمُخَلِّص. بل نحنُ مدعُوُّونَ لنعتَرِفَ بيسُوع كَرَبّ. إنَّ جوابَ بُولُس على ذلكَ السَّجَّانِ في فيلبِّي كانَ، "آمِنْ بالرَّبِّ يسُوع المسيح فتخلُص أنَ وأهلُ بيتِكَ." (أعمال 16: 30) في الأناجيل الأربَعة، لاحِظُوا كيفَ أعلنَ يسُوعُ أنَّ الخلاصَ قد تحقَّقَ لكُلِّ من إعتَرَفَ أنَّ يسَوعَ رَبٌّ (لُوقا 19: 8- 10؛ يُوحَنَّا 8: 11).
خلالَ قراءَتِكُم لإنجيلِ يُوحَنَّا، تأمَّلُوا بِتَصريحاتِ يسُوع الواضِحة بأنَّهُ كانَ الله في الجَسد. تقَعُ كلمة "يعتَرِفُ" باللُّغَةِ اليُونانِيَّة في كَلِمَتَين: كلمة "التَّكَلُّم" أو قَول، وكلمة "المِثل." فالإعتِرافُ يعني "قولُ المِثل." أن تعتَرِفَ بيَسُوع رَبَّاً هُوَ أن تَقُولَ الشَّيءَ نفسَهُ الذي قالَهُ هُوَ عن نفسِهِ عندما كانَ لا يزالُ يعيشُ هُنا في هذا العالم، وأن تَقُولَ الشَّيءَ نفسَهُ الذي قالَه ُاللهُ الآبُ عن إبنِهِ في كَلِمَتِهِ.
عندما أعطَى يسُوعُ المأمُوريَّةَ العُظمى، أخبَرَنا كيفَ نعتَرِفُ بأفواهِنا بما نُؤمِنُ بهِ في قُلُوبِنا – أن اللهَ أقامَ إبنَهُ منَ المَوت. لقد جعَلَ يسُوعُ منَ المُستَحيلِ علينا أن نَكُونَ تلاميذ ليسُوع سِرَّاً، عندَما جَعَلَ منَ المعمُوديَّةِ جزءاً من مأمُوريَّتهِ العُظمى. في تلكَ المأمُوريَّة، أوصَى يسُوعُ تلاميذَهُ أن يعمَلُوا أربَعَةَ أشياء. لقد أمَرَهُم أن يذهَبُوا، أو يصنَعُوا تلاميذ، أن يُعَلِّمُوا هؤُلاء التَّلاميذ، وأن يُعَمِّدُوا جميعَ أُولئكَ الذين يعتَرِفُونَ بِكَونِهِم تلاميذَهُ.
كتبَ بُولُس تعريفاً مُختَصراً وواضِحاً للإنجيل الذي كرزَ بهِ في كُورنثُوس، عندما ختمَ هذه الرِّسالَة المُوحَاة، لأُولئكَ الذين سبقَ وإختبَرُوا الخلاص عندما كرزَ لهُم بالإنجيلِ في كُورنثُوس. لقد كانَ هذا الإنجيلُ يتألَّفُ بجوهَرِهِ من حقيقَتينِ عن يسُوع المسيح: مَوتُهُ وقيامَتُهُ (1كُورنثُوس 15: 1- 4).
في الإصحاحِ السَّادِس من هذه الرِّسالَة، شرحَ بُولُس كيفَ تعتَرِفُ معمُودِيَّتُنا بإيمانِنا بالإنجيل الذي أوصى يسُوعُ المسيحُ تلاميذَهُ أن يكرِزُوا بهِ. أنا مُقتَنِعٌ أنَّ المَعمُوديَّة هي الطَّريقَة المُحدَّدَة التي أوصانا بها يسُوع، لنَعتَرِفَ خارِجيَّاً بالحقيقَةِ الدَّاخِليَّة أنَّنا نُؤمِنُ بمَوتِ يسُوع من أجلِ خلاصِنا.
عبرَ القُرونِ العِشرين من تاريخِ الكَنيسة، ماتَ الملايينُ منَ المُؤمنينَ لأنَّ يسُوعَ جعلَ المَعمُوديَّةَ جُزءاً لا يتجزَّأُ من مأمُوريَّتِهِ العُظمى. بالطَّبعِ عرفَ يسُوعُ أنَّ المعمُوديَّةَ ستُسَبِّبُ مَوتَ الملايين من خِرافِهِ أو أتباعِهِ. وبما أنَّهُ أظهَرَ هكذا محبَّةَ عظيمة للكنيسة بِطُرُقٍ عديدَة، علينا أن نفتَرِضَ أنَّهُ كَونَهُ راعي الكنيسة الصَّالِح، فهُوَ لم يأمُرْ بالمَعمُوديَّة بإستِخفافٍ لجميعِ الذين يعتَرِفُونَ بكَونِهِم تلاميذَهُ.
أنا مُقتَنِعٌ أنَّ معمُوديَّةَ الماء هي الطريقَة التي أوصانا بها يسُوع لنَعتَرِفَ بأفَواهِنا بما نُؤمِنُ بهِ في قُلُوبِنا: أنَّ المسيحَ رَبٌّ، وأنَّ اللهَ أقامَ إبنَهُ منَ المَوت لأجلِ خلاصِنا، وليَكُونَ رَبَّنا الحَيّ المُقام منَ المَوت.
- عدد الزيارات: 3139